بقلم: أكرم عطا الله
تتسع رقعة الحرب أكثر، وتتجاوز في امتدادها كل المعارك السابقة سواء بالجغرافيا ووصول تأثيرها لكل بيت في العالم، أو بالأسلحة التي تدخل المعركة وأبرزها سلاح النفط والغاز الذي تحول الى واحد من أبرز أسلحة الميادين بين أطراف الصراع في حرب استنزاف بات واضحاً أن أطرافها قررت الذهاب بعيداً، جزء منها يعتبرها فرصة لاستنزاف روسيا عسكرياً في الميدان الأوكراني وكسر شوكتها المتنامية ومنها الى الصين، فيما تعتبرها روسيا فرصة لكسر خصومها ولكلٍ منهم أسلحته غير آبهين بحجم الخسائر والضحايا.
قرار «أوبك بلاس» بتخفيض سقف الإنتاج اليومي من النفط بمعدل مليوني برميل يومياً كان مفاجئاً للولايات المتحدة والحلفاء في أوروبا، ويجيء في لحظة هي الأصعب وهي تدير معركتها ضد روسيا، وخصوصاً أن القرار جاء بعد توجه الاتحاد الأوروبي لفرض سقف لسعر النفط الروسي في اطار استخدام ما تملكه من أدوات لإضعاف روسيا، بهدف حرمانها من تمويل الجهد العسكري في أوكرانيا.
كان رد روسيا على ذلك التوجه على لسان نائب رئيس وزرائها الكسندر نوفاك بأنه إذا قررت الدول الغربية تنفيذ هذه الخطوة فإن الشركات الروسية لن ترسل إمدادات النفط الى الدول التي تعتمد هذا السقف. وعلى أبواب الشتاء تصبح إمدادات النفط في أهميتها تشبه إمدادات الخطوط العسكرية في ميدان المعركة إذا ما تقطعت تلك الخطوط .
بالتأكيد قرار «أوبك بلاس» يصب في صالح روسيا ومباشرة في خدمة المجهود العسكري الروسي الذي بدأ يتعثر بشكل واضح في الأشهر والأسابيع الماضية في الأراضي الأوكرانية، وينسحب من مناطق كان قد سيطر عليها. ويأتي تهديد روسيا في الفترة الأخيرة باستعمال السلاح النووي كتعبير عن هذا التعثر وتعبيراً عن حالة ضعف، فلو كان الأمر غير ذلك لما ذهبت روسيا في تهديدها نحو السلاح الأخير دون تدرج.
البيت الأبيض الذي يشعر بخيبة أمل وغضب كبيرين من قرار منظمة أوبك أمر بسحب عشرة ملايين من برميل من الاحتياطي الأميركي. وهذه ليست المرة الأولى في هذه الحرب، فبعد شهر على بدايتها أمر بايدن بسحب مليون برميل لمدة ستة أشهر. وبات الآن واضحا أنه يجري الضغط على إدارة بايدن أكثر وخصوصاً بعد أن برز الاستقرار اللافت للاقتصاد الأميركي في الأزمة وصعود الدولار وسط هبوط باقي العملات الأوروبية .
تحسباً للأزمة ولمزيد من الضغط جاء بايدن منتصف تموز الماضي للسعودية في زيارة ملتبسة بعد تعهده بعدم لقاء ولي عهدها محمد بن سلمان المتهم من واشنطن بمقتل جمال خاشقجي، ما اعتُبر تنازلاً أميركياً اقتضته لحظة ضعف فرضتها أولويات الحرب، وذلك بعد أن تجاهل قادة الخليج الاستجابة لمندوبيه وزير الخارجية انتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان بزيادة انتاج النفط لعدم حدوث هزة في الاقتصاد العالمي ولتخفيض سعره بهدف لمعاقبة روسيا.
حينها لم يأخذ الرئيس الأميركي بايدن ما جاء من أجله في رحلته الى الرياض، وتمت بعض الاستجابة الخجولة غير القاطعة والتلكؤ بأن طاقة الانتاج أقل مما تطلبه الولايات المتحدة، وخصوصا أن الخليج أراد أن ينحو بنفسه عن اصطفافات الحرب وتداعياتها، وخشية السعودية من الظهور بإضعاف روسيا وخشية إغضابها والخوف تحت ردة الفعل دعم الحوثيين بأسلحة كاسرة للتوازن، فقد حرصت ألا تبدو أنها تدعم طرفاً في مقابل الآخر.
لكن الأبرز من ذلك أن السعودية التي تمتاز بعلاقاتها مع الجمهوريين وشهدت أفضل حالاتها في عصر ترامب لا تتوق لمساعدة بايدن والديمقراطيين، وآخر ما تريده هو فوزه بولاية ثانية وخصوصاً أن الاستطلاعات لم تكن حينها تسير في صالح ساكن البيت الأبيض وحزبه مع تصريحات ترامب نيته الاعلان عن عودته للترشح في الانتخابات التي ستجري بعد عامين.
صحيح أن روسيا ترغب بتخفيض انتاج أوبك وزيادة وارداتها المالية، لكن اللافت هنا هو القرار السعودي والعربي الذي يذهب بعيدا في تحديه للإدارة الديمقراطية في هذه المعركة التي بدأت نذرها منذ بداية الحرب بعدم الاستجابة للرغبة الأميركية ووصلت ذروتها قبل ثلاثة اشهر أثناء زيارة بايدن للمنطقة، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة التي عبرت عن غضبها سيكون لها تعبيرات لهذا الموقف وسيضع الرياض في مواجهة واشنطن .
جاء هذا القرار قبل شهر من الانتخابات النصفية للكونغرس التي تجري كل عامين، وتأمل السعودية فوز الجمهوريين وتحجيم الادارة الديمقراطية وصولا الى تجريد الحزب الديمقراطي من الرئاسة، وهذا يعد قاسماً مشتركاً للرياض وموسكو، حيث اتهمت الأخيرة قبل ست سنوات بالتلاعب في الانتخابات الأميركية والمساهمة في فوز دونالد ترامب واسقاط هيلاري كلنتون.
هذا التحدي المباشر في لحظة حساسة أميركية ويصب في صالح موسكو يعتبر مغامرة كبيرة للرياض اذا ما أعيد انتخاب الديمقراطيين مرة أخرى ووضعت الحرب أوزارها ستكون أمام وضع ليس سهلاً. أما إذا ما قدر للجمهوريين أن يتقدموا فسيُحسب ذلك للسعودية وحينها ستكون قد أصبحت لاعباً مؤثراً في الداخل الأميركي، ما يعني أن انتخابات التجديد القادمة في الثامن من تشرين الثاني ستحدد نتائج تلك المغامرة السعودية التي وضعت نفسها وسط هذه المعركة. ولا أحد يعرف إن كانت الخطوات محسوبة أم لا، لكنها خطوة ليست سهلة، صحيح أنها تصب في خدمة المصلحة السعودية حيث زيادة العائدات النفطية لدولة تفتح الأبواب لتنفيذ مشاريع هائلة ولكنها تضعها في معركة مختلفة إذا فاز الحزب الديمقراطي. لكن كل ذلك يأتي وسط مناخات ضعف متزايد للسيطرة الأميركية في ظل ظروف كونية تنزاح فيها موازين قوى وتنشأ تحالفات جديدة وتصعد أخرى.