كتب: المحامي زياد أبو زياد
الأسطوانة الرائجة اليوم إسرائيليا ً وأمريكيا ً هي أسطوانة الحديث عن ضعف وعجز السلطة الفلسطينية وعن تفشي الفساد فيها. وتأتي هذه الأسطوانة على خلفية تصعيد عمليات المقاومة ضد الاحتلال في الآونة الأخيرة لتشمل اطلاق النار على المستوطنين ومهاجمة حواجز جنود الاحتلال.
وبالرغم من أن تصعيد هذه العمليات يحدث بالتزامن مع تصعيد العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد المدن والبلدات الفلسطينية في سائر أنحاء الضفة الغربية وقتل الشبان والأطفال واعتقال العشرات كل ليلة، وامعان الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في بناء وتوسيع المستوطنات وربط بنيتها التحتية المادية والقانونية بإسرائيل، والعمل على إفشال أي فرصة لحل سياسي قائم على انهاء الاحتلال، إلا أن سلطات الاحتلال لا تربط بين تصرفاتها وممارساتها وبين ردود الفعل الفلسطينية وعلى رأسها أعمال المقاومة وتُصر بأن أجهزة الأمن الفلسطينية عاجزة عن السيطرة على بعض المناطق الفلسطينية ولا تجرؤ على الدخول اليها، وأن هذا هو سبب تزايد عمليات المقاومة وانتشار الأسلحة بين الشباب.
وهذا المنطق الإسرائيلي المدعوم أمريكيا ً يعني بأن على السلطة، لكي تثبت أنها غير عاجزة وغير مقصرة وأنها قادرة على السيطرة على كل المناطق التي تحت مسؤوليتها، أن تقوم باعتقال كل من لديه سلاح وقمع كل من يفكر بمقاومة الاحتلال، وأن تثبت للاحتلال بأنها حريصة على سلامته وأمنه. وإذا لم تفعل ذلك فهي ضعيفة وعاجزة ومقصرة، ولذا فإن من حق الاحتلال القيام بالمداهمات والاعتقالات والقتل ونسف البيوت في مناطق ج، وتكثيف الاستيطان وتكريس الضم الزاحف.
والحديث عن تفشي الفساد في السلطة وعجزها وتقصيرها في القيام بواجباتها، وتحميلها مسؤولية تدهور الوضع الأمني من قبل أعلى المستويات الإسرائيلية وعلى رأسها وزير الأمن الإسرائيلي بيني جانتس ورئيس أركانه أفيف كوخابي ورونين بار رئيس جهاز الأمن العام “شاباك”، وإيال حولتا مستشار الأمن القومي في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، وغسان عليان منسق الحكم العسكري في الضفة الغربية وقطاع غزة، والعديد من الكتاب والمحللين السياسيين بإسرائيل، انما يُراد منه أولا ً تبرير استمرار الممارسات الإسرائيلية ضد أبناء شعبنا، وتسويغ احجام إسرائيل عن القيام بأية خطوات ذات مغزى ً سياسي تجاه السلطة. وهذا ما يفسر الجهود التي تبذلها اسرائيل لإقناع الإدارة الأمريكية بضعف السلطة من جهة وفسادها من الجهة الأخرى وأن ذلك هو ما يجبر إسرائيل على القيام بما تقوم به.
ومن الواضح أن أمريكا مقتنعة بالادعاءات الإسرائيلية فأوفدت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط باربرا لايف الى السلطة وفي جعبتها مطالب واضحة تقضي بقيام السلطة بما هو مطلوب منها أمنيا ً لصالح إسرائيل وألا تمضي قُدما في الطلب من الأمم المتحدة منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. وقد أحسن الرئيس عباس “إذ لم يسمح له جدول أعماله المزدحم” من استقبالها وتكليف كل من الأخوين حسين الشيخ وماجد فرج بالاجتماع بها والرد على مطالبها.
وكالعادة فإن إدارة بايدن التي لا تفعل شيئا ً سوى البيانات والتصريحات قد أعلنت قبل أيام على لسان وزير خارجيتها بأنها لا تزال تتمسك بحل الدولتين، ولكنها تحاول في نفس الوقت الضغط على الرئيس عباس قبل خطابه أمام الأمم المتحدة في الثالث والعشرين من الشهر الحالي لكي لا يطالب بالعضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة باعتبار ذلك في عداد الخطوات أحادية الجانب !!..، فدعت في البيان المشترك الذي صدر عن اجتماع وزير خارجيتها بلينكن ووزير الخارجية الأردنية أيمن الصفدي الى وقف “الأعمال الأحادية الجانب” التي تنسف حل الدولتين!! وكانه لم يتم نسف حل الدولتين من قبل إسرائيل منذ زمن بعيد.
فالمنطق الإسرائيلي – الأمريكي يقضي بمطالبة السلطة الفلسطينية بقمع وسحق أية بادرة مقاومة ضد الاحتلال، وبالامتناع عن القيام بأية خطوات قانونية أو سياسية على الصعيد الدولي سعيا ً وراء محاولة فتح أفق أو مسار يُفضي الى انهاء الاحتلال، وبنفس الوقت تيسير وتأهيل استمرار سياسة الضم والاستيطان الإسرائيلية، والتنصل في نفس الوقت من الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الفلسطيني والتي كان التنسيق الأمني جزئية صغيرة في اطار عملية سياسية ذات التزامات متبادلة لو تم التزام إسرائيل بهل لكان الجانبان قد خرجا من هذا النفق المظلم منذ أكثر من عشرين عاما ً.
إلا أنه قد ثبت بشكل قاطع أنه لم تكن لدى إسرائيل أية نية في أي يوم من الأيام انهاء الاحتلال وإتاحة إقامة دولة فلسطينية الى جانب دولة إسرائيل. بل ظلت سياستها تقوم على أساس التنصل من الالتزامات المفروضة عليها وبنفس الوقت تكثيف وتضخيم الالتزامات التي تطالب السلطة القيام بها، فاستطاعت تحويل التنسيق الأمني من جزئية في اتفاق أكبر وأشمل الى جوهر ذلك الاتفاق وربطت به كل المصالح المادية للجانب الفلسطيني وجعلتها مرهونة بالتنسيق الأمني وفي مقدمتها ضريبة المقاصة التي تجبيها عن الواردات الفلسطينية عبر الموانئ والأجواء الإسرائيلية. وهكذا اختفى البعد السياسي لعملية أوسلو ولم يعد أحد يتحدث عن الانسحابات وأصبحت العلاقة محصورة فقط في التنسيق الأمني مقابل أموال المقاصة والتسهيلات الشخصية الممنوحة للمتنفذين في السلطة ورجالاتها.
وتأتي هذه التطورات في سياق التطوير المستمر لمفهوم العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين والعرب بشكل عام. فبعد أن كان الشعار المرفوع هو الأرض مقابل السلام، أصبح السلام مقابل السلام، ثم أصبحت المعادلة المطروحة هي التنسيق الأمني مقابل الامتيازات وتحويلات الضرائب.
ولا شك بأن هذه المعادلة مرفوضة شعبيا ً ورسميا ً لأن قيام السلطة بما تطالب بها أمريكا وإسرائيل يجب أن يكون شقه المقابل هو قيام إسرائيل بكبح جماح المستوطنين وميليشياتهم المختلفة وكبح جماح الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية ووقف عملياتها ضد الفلسطينيين وتجميد الاستيطان وفتح أفق ومسار في اتجاه انهاء الاستيطان والاحتلال.
ومع استمرار رفض إسرائيل تنفيذ التزاماتها واستمرارها في سياسة الاستيطان والضم وانكار وجود وحقوق الشعب الفلسطيني فإن علينا أن نتوقع المزيد من الضغط والحصار ضد السلطة وضد أبناء شعبنا في كل المناطق وخاصة في القدس ومسافر يطا والأغوار ونابلس وجنين، والذي سيتسع ليشمل الضغط الاستيطاني واقتحامات الأقصى وفرض واقع جديد فيه وممارسة الضغط الاقتصادي والأمني والسياسي متمثلا ً بمزيد من القمع والضغط، والذي سيقابل بالطبع بمزيد من الرفض والمقاومة ضد الاحتلال في فترة مزايدات داخلية إسرائيلية انتخابية مطلوب منا أن نكون وقودها.