بقلم: بكر أبوبكر
في حوار طال مع أخ كريم حول ما آلت اليه أوضاع التنظيم السياسي العربي عامة، والفلسطيني خاصة، وبالأخص الترهل والتردي الداخلي من حيث طغيان المصلحية الذاتية والعقلية الوظيفية على حساب العقلية الثورية او الكفاحية، وطغيان المهرجانية والنفس القصير الذي يطرد المثابرين الديموميين والرساليين أو يطفيء شموعهم، ومن حيث ضعف المتابعة والحياة التنظيمية بالحركة أوالتنظيم النضالي ومنه في حركة “فتح” أنموذجًا فاقعًا، كان يائسًا الى الدرجة التي رسم بها صورة رآها البعض من الحضور قاتمة ورآها الآخرون حافزة للاصلاح والاستنهاض والتطوير، ولك أن تفكر ما بين القتامة والرمادي والبياض كما تشاء فكان له من الرأي ما يستحق أن يكتب.
في حركة “فتح” التي لم تتبنى يومًا فكرانية (أيديولوجية) تصارعت الاجتهادات والتيارات والمدارس فيها، لكن قيادة الحركة المركزية حافظت على التوازن بين المدارس والاتجاهات التي تشكلت.
كما حافظت على المحاور السياسية التي نشأت بين يمين ويسار والوسط -إن شئت التسمية- فيما جعلت من الاستقطاب والجذب مرتبطًا بالمحور أو “الشخصية الجمعية” أي بذات القيادة العليا وهي اللجنة المركزية، بمعنى أنها فهمت إمكانية التعددية في حدها الأقصى ولكن ضمن ربطها برأس الهرم وتوضع جميع الأوراق على الطاولة في اجتماع الإطار أي اللجنة المركزية.
في الثورة المصرية توافق أعضاء “مجلس قيادة الثورة” بقيادة جمال عبد الناصر على احترام الإطار وأعضائه حتى لو كان اختلافهم شديدًا، وهذا ما كان حتى عندما ظهر التباين واضحًا مع خالد محيي الدين، وكان للضبط في قيادة جبهة التحرير الجزائرية في البدايات ذات الوعي الجمعي.
كان للإطار هيبته أقصد إطار اللجنة المركزية رغم هيمنة الزعيم الراحل “أبوعمار” الذي لم يتعد يومًا على صحبِهِ واختلافاتهم، وإن استقوى بمراحل معينة أو لتثبيت سياسة أوفكرة معينة بأدوات أخرى منها جاذبيته الشخصية (كاريزميته)، وبالدعم حينًا، وبالجماهير حينًا، وبالتلطف والاحتضان والمحبة وعدم الحقد بتاتًا في أحيان كثيرة، وبقيادة المنظمة في حين آخر، ومع ذلك ظل الخلاف محتوَى ضمن ذات الإطار بغالب المراحل والفترات.
وهنا كما يتابع صديقنا القول أصبح النظام الأساسي (النظام الداخلي لاحقًا=الدستور أو القانون) والبرنامج السياسي تبعًا لإرادة المجموع داخل الإطارالجامع الشخصية الجامعة، بمعنى أن “شخصية اللجنة المركزية” كما كنتَ قد كتبت أنتَ عنها كانت العامل الضابط للحِراك، فلم يخرج معظمه عن عباءتها الواسعة. فهي لم تتساهل مع الخارج عليها، وإنما أعطت لأعضاء المركزية فيها حرية الاجتهاد وتفهم حقيقة التباين والاختلاف ورعايته حتى أن فكرة (الأبوات أو الأعمام أو المحاور أوالتيارات…) كانت متفشية، ومقبولة أو متفهمة نسبيًا وإن على مضض شديد خاصة لدى الأطر المنظمة (جسد التنظيم)، مادام المركز هو القادر على الضبط.
كان يكلمني معلقًا على مقالي أو مقالاتي المعنونة المعارضة في حركة “فتح” ما اتفقت معه واتفق معي بالكثير، حيث أشار بوضوح الى أن مفاهيم القيادة في ظل حركة سياسية عملية واقعية (براغماتية) تختلف عن تلك الحركة الفكرانية (الأبيديولوجية).
ففي حين تكون الأيديولوجية عاملًا ضابطًا ومرجعًا إلزاميا بالحركات المؤدلجة (إسلاموية أواشتراكية أو قومية…..) فإنه في الحركة الواقعية السياسية مثل “فتح” أو غيرها من الحركات السياسية الديمقراطية في الأمة العربية داخل الدول، وجب الاحتكام للنظام (القانون) الداخلي، والبرنامج السياسي متضمنًا الأهداف المرحلية، وهو ما تم تجازوزه كثيرًا في حركة “فتح” لصالح الرحابة والتعددية والاتساع والتفهم وإيثار قانون المحبة على قانون العقاب في النظام الداخلي، وعبر الضابط الرئيس أي اللجنة المركزية كما أشار مستشهدًا بما كتبته.
مأساة الحركة الأيديولوجية وعامل قوتها واحد وهو (الفكرانية=الأيديولوجية) فهي ضابط شديد وذو هيمنة على العناصر، ولكن حين اختلاف الرؤوس تنشق الاحزاب رأسيًا “شذر مذر” كما حصل بالتنظيمات الشيوعية والاسلاموية عامة.
بعنى أن عامل الضبط القوي هو ذاته عامل التفتت فيها. ليكون عامل التوافق بين الرؤوس هو بالحقيقة الأصل، لذلك فإن الحركة الوطنية أو النضالية الواقعية السياسية التي لا تمتلك أيديولوجية مهيمنة، تحتاج لمساحات رحبة واجتهادات وتفهم وصدر واسع ضمن الإطار، وتجاوز عن كثير من الأخطاء لتحافظ على الرابط الجامع كما حال ما أسميته أنت وأتفق معك أي “شخصية المركز” أو”شخصية اللجنة المركزية”.
تتميز حركة “فتح” بأن انتخاب اللجنة المركزية (ما يماثل المكتب السياسي في التنظيمات الأخرى) يتم مباشرة من المؤتمر العام، الذي يتم التوافق بالحقيقة على أعضائه استنادًا للنظام مع إدخالات حسب الثقل/القوى/الاجتهادات في القيادة العليا/اللجنة المركزية.
وهنا تصبح الإرادة الحقيقية في المؤتمر مرتبطة بفكر أو سياسة أو إرادة اللجنة المركزية أوالكتل المهيمنة فيها فلا يكون الناتج إلا بذات مسار وتباين وتوافق المنتِج. وعليه فالضبط المركزي يظل قائمًا، وتظل الشخصية الجمعية أي شخصية اللجنة المركزية (حال تواصل تماسكها) كما سميتها أنت-يقصدني-هي الضابط الحقيقي لا النظام=القانون، ولا البرنامج السياسي، وخاصة في ظل فوضى مقابل استبداد يتجاذبان التنظيم (المنظمة) وفي ظل عدم وجود أيديولوجية ملزمة ضامنة للاستقرار التنظيمي حين التوافق التام عليها بالقمة، وضامنة للفكر والهدف والمسار وسلوك الأعضاء.