بقلم: مالك ونوس
تتخلل الحرب الإسرائيلية المستمرّة على الشعب الفلسطيني استيطاناً وتهجيراً واعتقالاً وفصلاً عنصرياً، بين الفينة والأخرى، اعتداءات عسكرية على قطاع غزّة، أو استهدافات لمقاومين في الضفة الغربية، كما حصل في العدوان الاخير، والذي أطلق عليه الإسرائيليون تسمية “عملية الفجر الصادق”، وكذلك في عمليات الدهم واغتيال المقاومين في نابلس. وإذ تفيد المعطيات، والمتابعات التي تبحث في الحال الفلسطيني، بأن الإحباط واليأس وانقطاع الأمل الذي كان سمة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة كافة لسنوات، قد تحوَّل ذلك كله إلى غضبٍ في الفترة الماضية، على السلطة الفلسطينية وعلى نهج التطبيع العربي، وكذلك على المجتمع الدولي الذي يسهّل على الإسرائيليين الإفلات من العقاب على جرائمهم اليومية. ومن الواضح أن الشكل الوحيد الذي يمكن أن يخرج فيه هذا الغضب، وتكون له نتائج ملحوظة، هو الانتفاضة الشعبية، بعد ثبوت عدم قدرة العمل العسكري بأشكاله الحالية، وفي ظل الانقسام الحاصل، ومع غياب أي مشروع أو استراتيجية نضالية موحّدة، على تحقيق إنجاز لافت.
وللمفارقة، وبينما أطلقت حركة الجهاد الإسلامي، المستهدفة في العدوان، على عمليات مقاومتها العدوان أخيراً تسمية “عملية وحدة الساحات”، إلا أن الساحات كانت فارغةً إلا من “الجهاد”؛ إذ لم تُسجل مشاركة المنظمات الفلسطينية المقاومة الأخرى، مثل حركة حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرهما، في المعركة. ومنذ بداية العدوان، ظهرت الانتقائية في الأهداف الإسرائيلية، إذ اقتصرت على زعماء الحركة ومقرّاتها، من دون أن تطاول المنظمات الأخرى. وهذه سياسة إسرائيلية هدفها الاستفراد بهذا الفصيل أو ذاك، ربما لضرب وحدة الصفّ المقاوم، وإحداث شروخ بين هذه الفصائل. وليست الساحة الفلسطينية في حاجةٍ إلى مزيد من الحوادث التي تزيد من الشروخ، وهي التي بدأت مع توقيع اتفاق أوسلو، سنة 1993، وتعزّزت مع فوز “حماس” بالانتخابات التشريعية في غزة سنة 2006، حتى أصبحت مزمنة، وغير قابلة للعلاج.
ربما لم تمر القضية الفلسطينية يوماً بمثل هذه اللحظة الحرجة التي تهدّد وجودها بفعل عوامل كثيرة ذاتية وموضوعية. ولا يمكن توصيف حال هذه القضية بأنها وضع كُمون بسبب غياب الحلول، بقدر ما هي عملية تراجع على مختلف الصعد، وهو ما يهدّد هذه القضية ووجود الشعب الفلسطيني وهويته وكيانه. فحتى قبل سنة، عندما شنّ جيش الاحتلال عدوانه على غزّة، في العملية التي سمّاها “عملية حارس الأسوار”، بعد الاعتداءات على المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، في 10 مايو/ أيار 2021، كانت هنالك عملية استنهاض شعبية شاملة في كل أرض فلسطين التاريخية، وشاركت جميع الفصائل المقاومة في العمليات ضد الاحتلال، وفي إطلاق الصواريخ من قطاع غزة باتجاه المواقع والمدن في الجانب الإسرائيلي. لكن الانقسام كان واضحاً في العدوان الأخير قبل أيام، وهذا ينطبق على صُعد العمل الفلسطيني كافة، وعلى غياب جدوى أو أفق سياسي لأي فعل حالي، إنْ كان ثمّة فعل ما على هذه الساحة.
لا يمكن ترك الأمور على ما هي عليه في فلسطين، إذ لا يُقابل العنف الإسرائيلي هذه الأيام بعنف فلسطيني مؤثر، في وقتٍ لا يفهم فيه الإسرائيليون سوى لغة العنف التي يمكن أن تدفعهم إلى التفكير بأنه لا يمكن نسيان أن هنالك قضية بحاجة إلى حل، وإن عدم حلها قضية وجودية تهدّد وجود الكيان الإسرائيلي قبل أن تهدّد وجود الآخرين. كما أن حال العقم التي تعيشها السلطة الفلسطينية، تترافق بحالٍ مماثلة في القطاع أيضاً، تتحمّل حركة حماس المسؤولية عنها بسبب تحكّمها بالقطاع، هي عواقب نهج تدميري حل محل أي مشروع نهضوي أو تنموي مفترض لدعم صمود الفلسطينيين أمام الاستيطان والتهجير والاعتقال التعسفي والقتل المجاني.
بعد كل هذه الوقائع، وبعد تراجع الاهتمام الإقليمي والدولي بالقضية الفلسطينية، لا تزال الأوهام معشّشة في أروقة السلطة الفلسطينية، وفي لا وعي قيادتها، التي لا تزال تعوِّل على المجتمع الدولي وعلى “الوسيط النزيه”، عربياً كان أم أميركياً، وعلى خطط الحل التي يعدّها الإسرائيليون أنفسهم أوهاماً. ففي سنة 2005، صرَّح رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، بأنه لن يخوض مفاوضات من أجل دولةٍ فلسطينيةٍ، وهو ما اعتبره الأميركيون تراجعاً عن مبدأ حلّ الدولتين الذي يعدّ أساساً لوقف الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. غير أن أسف الأميركيين يومها لم يمنع رئيسهم، باراك أوباما، من تطمين الإسرائيليين بالقول لموقع “هافنغتون بوست” إن الخلافات مع نتنياهو لن تؤثر على المساعدات الأميركية المقرّرة لدولة الاحتلال. وفي سنة 2020، قال نتنياهو إن خطة الرئيس ترامب للسلام، والتي عرفت بـ “صفقة القرن” وضعت حداً لأوهام حلّ الدولتين. وتصر السلطة الفلسطينية على العيش في هذه الأوهام، ولا ترى في أيٍّ من هذه الإشارات، ولا حتى كلام الرئيس الأميركي، جو بايدن، بعد العدوان الأخير على غزّة، عن حق إسرائيل في الدفاع عن شعبها ضد الهجمات.
إذا ما كان هنالك من سبيلٍ لتغيير هذا الواقع، وإحداث نقلةٍ مؤثرة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا يجب أن يبدأ بمقاومة الإسرائيليين قبل أن يبدأ بتغيير حكام الأمر الواقع في الضفة الغربية وغزّة. وتشير انتفاضات الشعب الفلسطيني، وآخرها الانتفاضة الجامعة في أراضي 1948، وحي الشيخ جرّاح في القدس، وغيرهما من المناطق، إلى أن انتفاضة ثالثة باتت ضرورية، وإنْ لم تكن ضروريةً لتغيير الواقع، ستكون حتمية، لأن الواقع المتدهور بسرعة سيدفع إلى فرضها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. حينها، ومع انتفاضةٍ من هذا النوع، لن يقول بايدن إن من حقّ إسرائيل الدفاع عن مواطنيها، بل سيكون في ورطةٍ حين تظهر حقيقة دولة الاحتلال، وهي تواجه محتجّين سلميين.