كتب: عبد المجيد سويلم
من يتابع التقارير التي تنشرها وسائل الإعلام الإسرائيلية عن حجم العمليات العسكرية التي تراوحت بين التصدي للقوات الإسرائيلية أثناء توغّلاتها لمدن شمال الضفة، وكذلك للتقارير التي تتحدث عن الازدياد الكبير وغير المسبوق في حوادث إطلاق النار التي تتعرض لها الدوريات العسكرية الإسرائيلية في كل الضفة، وليس في شمالها فقط، والتقارير التي تتحدث عن عمليات إلقاء القنابل الحارقة على مواقع إسرائيلية، وعن الحجم غير المسبوق، أيضاً، عن «الإنذارات الساخنة» حول عمليات يتم «الإعداد» لها في مناطق عدة من الضفة، وخصوصاً في شمالها.. من يتابع مثل هذه التقارير لا بدّ وأن يخرج باستنتاجات تكاد تكون مؤكدة بأن الاجتياح الإسرائيلي لشمال الضفة أصبح قريباً، وأن المسألة مجرّد مسألة وقت، وربما تكون، أيضاً، مسألة توقيت.
تحاول إسرائيل أن تصوّر وكأن هذا التصعيد ناتج عن «غضّ السلطة لعينها عن كل هذا الذي يجري، وبالتالي فهي بصورة مباشرة، وبصورة غير مباشرة» تحمّل السلطة المسؤولية عنها في محاولة جديدة ومستجدّة للابتزاز بأبشع صوره وأشكاله، وفي حين ترى بعض الأوساط الإسرائيلية أن المزيد من الضغط على السلطة هو الحل الممكن مؤقتاً حتى ولو أدى هذا الضغط، وهذا الابتزاز إلى الانهيار الكامل لهذه السلطة، ترى بالمقابل أوساط أخرى أن هذا الضغط «بحدّ ذاته» قد ينطوي على مخاطر كبيرة، وأن من شأن أي انهيارات جديدة أن تفضي إلى حالة فوضى وفلتان ستدفع إسرائيل ثمنها الأول والأكبر، وعلى العكس من الموقف الذي يؤيّد ممارسة أعلى درجات الضغط والابتزاز للسلطة، نرى أن هذه الأوساط تحذر من هذا الأمر بالذات و»تقترح زيادة الدعم للسلطة» خوفاً من الانهيار، وهي تعتبر أن «الوقوع» في فخ ابتزاز السلطة لن ينتج عنه سوى دخول إسرائيل إلى كل الضفة بصورة سيطرة واحتلال جديد قد يصل إلى «استخدام» عشرات الآلاف من الجنود الإسرائيليين في وقت حرج من الناحية السياسية الداخلية الإسرائيلية، وفي وقت حسّاس من الناحية الأمنية والعسكرية بالنظر إلى احتمالات الحرب على الجبهة اللبنانية، أو السورية وحتى الإيرانية، ناهيكم عن قطاع غزة.
لا تذكر وسائل الإعلام الإسرائيلية ولا حتى كلمة واحدة، عن دور إسرائيل في «إذكاء» حالة تصاعد الأعمال العسكرية والأمنية ضد قواتها في كل الضفة، ولم يجد أحد في إسرائيل أن عمليات الإعدام والاغتيال التي شهدتها الضفة على مدار شهور هي أحد أهم الأسباب في قراءة تصاعد العمليات العسكرية في الضفة، ولم تتمكن وسائل الإعلام الإسرائيلية من «اكتشاف» أي روابط بين الهجمات الاستيطانية، وهدم البيوت، ومصادرة الأراضي، وشرعنة البؤر الاستيطانية، وكل ما تقوم به قواتها ومستوطنوها في القدس والخليل وجنوبها، وفي الأغوار، وما بين تصاعد العمليات الأمنية والعسكرية من جانب الشباب الفلسطيني الغاضب.
لا أعتقد ولا أصدق أن شعباً بأكثريته الكبيرة قد وصلت لديه الأمور إلى ما وصلت في إسرائيل، بحيث أنه يفقد أبسط أشكال التفكير المنطقي، كأن يسأل نفسه عن الأسباب التي تؤدي بالشباب إلى هذه الدرجة من الغضب، وإلى هذه الدرجة من الإصرار على المقاومة حتى آخر نفس؟
لا يكاد أحد في إسرائيل يرى ما تقوم به إسرائيل، وكأن كل ما تقوم به هو الشيء الطبيعي، والشيء «غير الطبيعي»، و»غير المعقول»، و»غير المنطقي» هو أن يقاوم الفلسطيني هذه الممارسات الإسرائيلية.
هذه مسألة أكثر من مجرّد غشاوة سياسية، وأعمق من مجرد سذاجة سياسية، وأخطر بكثير، وبما لا يقاس من نتائج غسل الأدمغة التي تجهد بها وسائل الإعلام الإسرائيلية في غالبيتها الساحقة لقلب الحقائق وتزييف الوقائع. المسألة ــ كما أرى ــ تحتاج، أو باتت تحتاج إلى قراءة مختلفة، وإلى فكر سياسي أكثر كفاءة في قراءة هذا الواقع.
الذي أظنّه على هذا الصعيد أن المجتمع الإسرائيلي في غالبية شقه اليهودي قد «نضج»، أو لنقل قد تم إنضاجه على مدى العقود الأخيرة لكي يتحول إلى «كتلة» متراصّة من العنصرية الاستعمارية بالمفهوم التقليدي الذي انطوت عليه تجارب الاستعمار الاستيطاني الذي عرفته البشرية من خلال الإحلال والاقتلاع والتصفية والتطهير العرقي الذي شهدته تجارب الاستعمار الاستيطاني الأنجلوساكسونية تحديداً، وتجارب هذا الاستعمار الأوروبي عموماً.
أقصد أن معارضة الاستعمار الاستيطاني ذي النزعات «التصفوية» والإحلالية والاقتلاعية، وذي السمات العنصرية في أكثر أشكالها سفوراً وبشاعة لم تتأتّ غالباً من «المجتمع» الذي يقوم بهذه السياسات والذي يمارسها «بقناعات»، ويصورها القائمون عليها وكأنها مسائل منتهية وليست مطروحة للتداول السياسي بين صفوف «المجتمع المستعمِرْ»!
وإذا أضفنا إلى كل تجارب الاستعمار الاستيطاني التي عرفتها البشرية الحديثة والمعاصرة مسألة الرواية الدينية، وهي الرواية التوراتية في الحالة الإسرائيلية، وكذلك مسألة تاريخ «الغيتو» اليهودي في أوروبا، والسمات النفسية التي ركّبها هذا التاريخ في العقل «الجمعي» اليهودي.. إذا أضفنا هاتين المسألتين الخاصتين في تجربة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين نُصبح ربما قادرين على «تفسير» تلك «الغشاوة، أو السذاجة» أو العمى التام الذي أصيب به قسم كبير من المجتمع في إسرائيل.
ولهذا بالذات نرى أن الغالبية الساحقة ليست بوارد التفكير المنطقي، وليست معنية بهذا النمط من المنطق، ولم تعد تُبالي بأي درجة بمصير «العيش المشترك»، وإنما فقط بمصير هيمنة الحالة الاستعمارية الاستيطانية على هذا «التعايش».
ولهذا فإن المراهنة على «التغيير» من داخل المجتمع الإسرائيلي هي ليست فقط مراهنة بائسة، وإنما بالغة الضرر على مفهوم التحرر الوطني لشعبنا، وهي خطر ثقافي وفكري وسياسي أكبر من الخطر الأمني والعسكري والاقتصادي. ومن هنا وحتى إشعارٍ آخر، وإلى أن يتم إحداث عشرات الصدمات في هذا المجتمع الذي تحول إلى كتلة جمعية متراصّة للاستيطان الاستعماري، فإن على الفلسطينيين أن لا يتوقعوا سوى الفتك الإسرائيلي بهم.
وبما أن الشعب الفلسطيني لم يقبل تاريخياً هذا الاستعمار الاستيطاني العنصري، وقاومه على مدى أكثر من قرن، وهو ما زال يقاوم، وما زال يصرّ على المقاومة بكل الأشكال المتاحة، مهما كانت بسيطة وصغيرة، وحتى لو كانت سلمية وناعمة فإن ذلك لن يشفع للشعب الفلسطيني لأن المشروع الصهيوني نفسه هو المشكلة، وهو جوهر الأزمة، وهو الذي يرفض وجودنا من أساسه، ولن يقبل بنا إلّا مجرّدين من أي سمة أو اعتبار وطني أو قومي أو تحرّري.
نعم هم على أبواب اجتياحات لشمال الضفة، وللضفة كلها فيما بعد، وربما يخططون لتدمير ما تبقّى من القطاع إلا إذا وافقت «حماس» على الخطة الإسرائيلية كاملة غير منقوصة.
لقد وصلت إسرائيل إلى مرحلة «النضج» الاستيطاني، والأرضية باتت ممهّدة بالكامل من ناحية ثقافة «المجتمع» الإسرائيلي، وتم اختراع «الرواية» كاملة، وتم التحضير للحروب الدائمة، والتجهيز لمراحل أعلى وأعلى من المشروع الاقتلاعي والإحلالي.
وكل ما دون ذلك هو أقرب إلى «التسلية والدردشة» الفكرية والثقافية والسياسية على حدٍّ سواء.