بقلم: د. مصطفى البرغوثي
خاض الأسير الفلسطيني خليل عواودة إضراباً بطولياً عن الطعام، دفاعاً عن حريته الشخصية وحرية شعبه، وتعلق بقاؤه على قيد الحياة بخيط رفيع، بعد أن تجاوز إضرابه مائة واثنين وسبعين يوماً، وغدا جسمه هيكلاً عظمياً، مكسواً بالجلد، قبل أن يكسر قرار حكومة لبيد المجرمة، ووزير جيشها غانتس بإبقائه رهن الاعتقال الإداري، دون تقديم أي تهمة ضده.
ومثل خليل هناك 670 أسيرا إداريا، معتقلون حسب قانون الطوارئ البريطاني، وبعضهم لسنوات، من دون محاكمة، ومن دون اتهام، ومن دون أي سبب معلن لاعتقالهم، ويهدد الأسرى الفلسطينيون بأن يبدأوا إضراباً مفتوحاً عن الطعام ضد القمع والتنكيل الذي يمارسه السجانون الاسرائيليون ضدهم.
لم يلق الأسير البطل خليل، وهو على حافة الاستشهاد، ولا الأسرى الذين لا سلاح لهم، سوى الإضراب عن الطعام والمخاطرة بحياتهم، الإسناد الفلسطيني الشعبي والرسمي المطلوب، ولم يلمسوا أي تدخل دولي جدي لصالحهم، من نفس الحكومات الغربية التي تملأ الدنيا صراخاً واحتجاجاً، عندما يتعلق الأمر بمعتقل أوكراني، أو منشق صيني، أو رياضية أميركية متهمة بتهريب المخدرات.
ولن أخوض في هذا المقال، في موضوع التقاعس الدولي، فقد أُشبع وصفاً، وخلاصته أن حكومات كثيرة خضعت للإرهاب الفكري الإسرائيلي، والصهيوني، حتى صارت نصرة المظلوم والمضطهد حراماً، إن كان فلسطينياً، وحيث تحول القاتل إلى ضحية ، كما صارنضال الضحية في عرفهم إرهاباً.
ما يقلقنا أكثر، هو ضعف المساندة الشعبية الفلسطينية، ليس بسبب ضعف المشاعر الوطنية، أو ندرة البطولات الفلسطينية وعمليات المقاومة ، وهي كثيرة، وأحد مظاهرها أن جيش الاحتلال يواجه تصديا شعبيا باسلا كلما اقتحم مدينة أو قرية ، ولا بسبب عدم الاهتمام بمعاناة الأسرى بمن فيهم خليل عواودة، بل بسبب حالة التفتت والتقسيم والتجزئة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وهي حالة خطط الاحتلال لها، وبذلت الحركة الصهيونية كل ما تستطيع لتحقيقها.
تعتمد إستراتيجية الحركة الصهيونية على عاملين أساسيين: تجزئة الشعب الفلسطيني وتقسيمه ، وبث روح اليأس والإحباط بين صفوفه. ومنذ وقعت النكبة عام 1948، وبعدها الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، والاحتلال يسعى إلى استخدام كل أدوات تجزئة الفلسطينيين، جغرافياً وسياسياً، وإقتصادياً وإجتماعياً.
شملت أدوات التجزئة الجغرافية مئات الحواجز العسكرية، ومئات المستوطنات الاستعمارية، وجدار الفصل العنصري، وشوارع الابارتهايد العنصرية، والحصار على قطاع غزة بالإضافة، إلى دسائس الاحتلال السياسية، والتدخلات الخارجية لتأليب القوى الفلسطينية ضد بعضها.
وعمل الاحتلال منهجياً على فصل الضفة عن قطاع غزة، والقدس عن باقي الضفة الغربية، مهيئا الظروف الجغرافية للانقسام السياسي الذي تلا ذلك.
وإستخدم الاحتلال كارثة تقسيم الضفة إلى مناطق (أ) و (ب) و (ج) حسب إتفاقية أوسلو، ليحول الضفة الغربية إلى 224 جزيرة، أو جيتوستاناً صغيراً، وليفصل 62% من مساحة الضفة الغربية ويكرسها لمصلحة التوسع الاستعماري الاستيطاني.
لم تشهد فلسطين منذ ثورة 1936، تلاحماً شعبياً نضالياً، وانخراطاً جماعياً وموحداً في النضال الوطني مثلما عاشته أيام الانتفاضة الشعبية الأولى، التي كان عنوانها وحدة النضال والمناضلين، كما ارتبط نجاحها بوجود قيادة وطنية موحدة، إلى أن أُضعفت لاحقاً للأسف الشديد، بسبب التنافس الفصائلي والتعصب الحزبي.
ولم يستطع الإحتلال الالتفاف على تلك الوحدة الوطنية، إلا عندما نجح في تمرير اتفاقيات سياسية مثلت فخاً للجانب الفلسطيني، وأوجدت، بغض النظر عن النيات، إنقساماً سياسياً بين الداخل والخارج، وبين المؤيدين للاتفاقيات والمعارضين لها، فيما شكل قاعدة للانقسام القائم حالياً بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبمرور الزمن، وبحكم الوضع الغريب الناشئ عن وجود سلطتين تحت الاحتلال، وفي ظل التضارب الناجم موضوعياً وذاتياً عن الجمع بين الاستمرار في مهام حركة التحرر الوطني والحاجة للحفاظ على السلطة، وإمتيازاتها، ومكاسبها، ومتطلبات تلبية أعباء مسؤولياتها، تفاقمت الانقسامات لتمتد من انقسام بين الفصائل إلى انقسامات داخل بعض الفصائل نفسها. وأدى استمرار غياب برنامج وإستراتيجية وطنية كفاحية جامعة وموحدة، وعدم وجود قيادة وطنية موحدة، إلى تعميق مشاعر الإحباط والنفور خصوصا لدى الأجيال الشابة، وإلى هبوط حاد في رضى الجماهير الشعبية، وتزعزع الثقة بالمنظومات القائمة.
وقد سببت هذه الحالة ، وتسبب، ضعفاً فلسطينياً، يستغله الاحتلال لتصعيد تنكيله بالشعب الفلسطيني، واستخفافه بقياداته، بل ويواصل استثماره لمحاولة دق أسافين جديدة بين قوى المقاومة الفلسطينية كما شهدنا خلال العدوان أخيرا على قطاع غزة.
وإذا كانت الانقسامات والتجزئة هي أكبر أعداء الشعب الفلسطيني، وأكثر العوامل إضعافاً له، فمن المنطقي القول، بأن أهم مدخل مطلوب اليوم لعلاج ذلك الضعف، هو التصدي الفوري لحالة الانقسام، وبناء جبهة وقيادة وطنية موحدة، على أساس الشراكة الديمقراطية والتمسك بنهج النضال من أجل الحقوق الوطنية.
ولعل مبادرة القيادة الجزائرية الدفع باتجاه الوحدة الوطنية تمثل الفرصة الأخيرة لتحقيق ذلك، قبل أن يقرر الشعب، أن عليه أخذ الأمر بيده، ويعمل على ترسيخ وحدة نضالية من القاعدة إلى القمة، بعد أن عجزت القمة السياسية عن تحقيق مطالبه المشروعة وآماله في الوحدة الوطنية وإنهاء الإنقسام.