كتب: طلال عوكل
دولة استثنائية، لا مثيل لها، لا في التاريخ الماضي، ولا في التاريخ الحاضر، وثمة شك في أن يتكرر النموذج الذي هي عليه دولة إسرائيل.
نشأت طبيعتها في الأساس من كونها مشروعاً استعمارياً له وظيفة محدّدة.
أعتقد أن سياق نشأة وتطور دولة الجيش الإسرائيلي، ومآلاتها تدخل في عداد قضايا الحتمية التاريخية، بصرف النظر عن الزمن والظروف.
بإرادتها، وبأغلبية مشرّعيها، تختار إسرائيل لنفسها هوية لا تخجل منها، ذلك أن قانون القومية الذي يتحدث عن دولة لليهود يعني بالترجمة المباشرة دولة فصل عنصري.
ليس غريباً إذاك ألا تدافع إسرائيل عن نفسها حين تتزايد الاتهامات لها من قبل دول ومؤسسات دولية، باعتبارها دولة “أبارتهايد” وفصل عنصري، تمارسه الدولة ويمارسه المجتمع بكلّيته ضد الفلسطينيين.
هذه الهوية، المحملة على سياسة العنجهية، والغرور، تجعل الدولة، مهما كانت انتماءات نخبتها السياسية، تسير على منهج واحد، ثابت ومستمر، يقضي بإدارة الظهر والاستهتار بكل ما يصدر من قرارات وقيم عن المجتمع الدولي، ومعارضة حلفائها الأقربين حين يتعلق الأمر بمصالحها الخاصة.
ملف الجرائم التي ارتكبتها الجماعات الصهيونية قبل قيام الدولة العام 1948، وتابعتها الدولة بعد قيامها، هذا الملف طافح بكل أنواع وأشكال جرائم الحرب، حتى أن أي إضافة، والإضافات تكاد تكون يومية، قد أصبحت روتيناً، ومنهجاً لا تبدله كل وأي احتجاجات من أي جهة كانت.
إسرائيل تتابع سياستها ومنهجها في التعامل مع الفلسطينيين والمحيط دون أن تخشى من العقاب، فثمة من يدعمها “بالباع والذراع” ويمنع أي مؤسسة دولية، من أن توجه حتى نقداً أو لوماً لإسرائيل. عدا ذلك، ثمة من المحيط العربي، من بات يبدي إعجاباً، واستعداداً لقبول التعامل والتعاون مع إسرائيل بما هي عليه.
إسرائيل ليست مستعدة، بل ترفض التعاون مع لجان التحقيق التي تقررها مؤسسات دولية، مثل المجلس الأممي لحقوق الإنسان أو منظمة العفو الدولية “أمنستي”، أو أي مؤسسة لها علاقة بالعدالة، وحقوق الإنسان، بما في ذلك مؤسسات مجتمع مدني إسرائيلية.
لو أن إسرائيل دولة طبيعية، لكانت استجابت لضغط الإدارة الأميركية، والضغوط والمطالبات الدولية، بشأن التحقيق في اغتيال الصحافية العالمية شيرين أبو عاقلة، لكنها تجاهلت الكلّ، وأصرّت على ما أعلنته منذ البداية.
كثيرة، ومتعددة الانتماء والجنسيات وكثير منها أميركية من المؤسسات الإعلامية أجرت تحقيقاتها الخاصة، وأعلنت عن نتائجها، وكلها أجمعت على أن الجيش الإسرائيلي هو حصرياً المسؤول عن اغتيال شيرين غير أن ذلك لم يترك أي تأثير على الرواية الإسرائيلية.
بعد ضغط شكلي متواصل من قبل الإدارة الأميركية، ومطالبات العديد من أعضاء الكونغرس بإجراء تحقيق مستقل، خرج الجيش الإسرائيلي باستخلاصات تشير إلى “أن هناك احتمالا كبيرا جدّاً” بأن يكون الجيش الإسرائيلي قد قتل شيرين.
ولتبرئة الجيش والجندي وهو بالتأكيد معروف لدى المرجعيات العسكرية والقضاء، يشير الإعلان إلى أن الجندي قد أطلق النار على شيرين وقتلها بالخطأ.
ولأن القضاء الإسرائيلي هو جزء أصيل من منظومة الفصل العنصري والإرهاب، فإن النيابة العامة لم تجد أي مخالفة تستدعي فتح تحقيق جنائي في قتل شيرين.
يستقبل الإعلان الإسرائيلي الفاجر، ترحيباً من وزارة الخارجية الأميركية، لأنه قدم مراجعة للحادث المأساوي، وكأن الإدارة الأميركية أعفت نفسها إزاء متابعة جريمة بشعة بحق مواطنة أميركية.
في اتجاهٍ آخر، تعقّب المفوضة الخاصة بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة على التقرير بالقول، إن التحقيق لم يكن موضوعياً ولا حقيقياً وأن ثمة أدلّة مختلفة تظهر عدم جدّية إسرائيل في إجراء تحقيق.
يشكّل ما يسمّى التحقيق الإسرائيلي، والترحيب الأميركي الرسمي، مشهداً متكاملاً، لذلك التكامل في الأدوار بين المعلّم و”الصنايعي”.
الإدارة الأميركية جنّدت إمكانياتها للضغط على السلطة الفلسطينية وعلى عائلة شيرين حتى لا ينتقل الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية وهي ليست المرة الأولى، إذ إن الولايات المتحدة سبق أن نجحت في منع الذهاب بملف “تقرير غولدستون” إلى المحكمة الجنائية الدولية.
أسجّل هنا تحية كبيرة لـ”قناة الجزيرة” القطرية، التي لم تتوقف عن التذكير بهذه الجريمة، منذ اللحظة الأولى لارتكابها، وحتى الآن، وبموازاة ذلك، تقوم القناة بنشر الفظاعات الإسرائيلية وإفراد مساحة مهمة للأحداث الجارية في الضفة والقدس وغزة، على غرار ذلك، ينبغي أن يتواصل الاهتمام الإعلامي والسياسي والحقوقي من قبل المؤسسات السياسية الرسمية الفلسطينية، والإصرار على رفع الملف إلى الجنائية الدولية، وعدم الاستجابة لضغوط أميركا، ورفض المساومة على هذا الملف.