هآرتس – بقلم: عاموس هرئيل معظم المشاورات الأمنية المتواترة في إسرائيل تتناول الاتفاق النووي الجديد الآخذ في التبلور بين إيران والدول العظمى. وما زالت الخلافات حول الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان في الذروة وترافقها تهديدات شديدة من “حزب الله”. ولكن في كل محادثة مع كبار المسؤولين في جهاز الأمن جرى ذكر تصعيد محتمل في المقام الأول في الأسابيع الأخيرة، وثمة ساحة أخرى هي الساحة الفلسطينية، وتحديداً الضفة الغربية.
قطاع غزة سبق وشهد في هذا الصيف جولة تصعيد مدتها ثلاثة أيام في بداية آب. عود الثقاب الذي أشعل النيران تم إشعاله في الضفة عند اعتقال شخصية رفيعة في الجهاد الإسلامي على يد إسرائيل. ومثل سابقاتها، أظهرت الجولة الأخيرة في القطاع قدرة محدودة للتنظيمات في غزة على إلحاق الضرر بإسرائيل. الجدار الذي أقيم حول القطاع يصعب عملية الاختراق من الأنفاق، ومعظم صليات الصواريخ يتم اعتراضها بواسطة القبة الحديدية. النجاح الرئيسي لحماس سجل في السنة الماضية في عملية “حارس الأسوار” عندما شجعت حماس العنف أيضاً في الحرم والمدن المختلطة داخل الخط الأخضر.
الخطر المحتمل الذي تشكله الضفة أعلى. وقد تم تجسيد هذا الخطر في الانتفاضة الثانية، وبعد ذلك في فترات أقصر تميزت بأعمال الأفراد، لمدة حوالي نصف سنة، من خريف 2014 وطوال شهرين تقريباً في الربيع الماضي. الصعوبة التي تجسدت أيضاً في هذه السنة تتعلق بعدم قدرة على وقف تام لانتقال المخربين عبر الجدار الذي يمتد على طول خط التماس. وكانت النتيجة عمليات إطلاق نار وطعن داخل الخط الأخضر، وعندما ينفذ الجيش اعتقالات في عمق الضفة يحدث احتكاك متزايد مع مسلحين فلسطينيين. تم وقف موجة العمليات الأخيرة في أيار، لكن حلت محلها مواجهات قاسية ومتكررة في شمال الضفة، في جنين ونابلس. هناك ارتفاع بعشرات النسب المئوية في أحداث إطلاق النار أثناء عمليات الاعتقال، وأيضاً في محاولة تنفيذ عمليات في عمق المنطقة ضد معسكرات الجيش والمستوطنات في الضفة.
أحصيت أسباب ذلك أكثر من مرة: ضعف سيطرة السلطة الفلسطينية على ما يحدث، ودخول تنظيمات محلية إلى الفراغ الذي تبقيه، وخوف الأجهزة الأمنية الفلسطينية من مواجهتها، والسلبية الإسرائيلية التي تتمثل بتجميد العملية السياسية (يد مقبوضة في كل ما يتعلق ببادرات حسن نية اقتصادية). والخوف من أن يشتد هذا التدخل ويورط إسرائيل والفلسطينيين في فترة تصعيد طويلة أخرى، انتفاضة ثالثة، أو نسخة مكبوحة أكثر بقليل، يتم ذكره في كل محادثة مع كبار الضباط في جهاز الأمن، الشاباك والاستخبارات العسكرية وقيادة المنطقة الوسطى وجهاز منسق أعمال الحكومة في “المناطق” [الضفة الغربية].
السلطة تقلل من إرسال أعضاء الأجهزة إلى مخيمات اللاجئين ومراكز المدن وبعض القرى في شمال الضفة. حماس تذكي التوتر، لكنها لا تسيطر عليه. وفي ظل غياب نشاطات الأجهزة، يقوم الجيش الإسرائيلي بتعميق نشاطاته. في السابق وصفت هذه الطريقة بـ “ماكينة قص العشب” الفعالة – اعتقالات كثيرة أدت إلى التحقيقات، التي جلبت معلومات والمزيد من الاعتقالات، وخفضت نطاق الإرهاب بالتدريج.
لكن يوجد خوف وقع هنا بالتحديد من ثور هائج: معظم الاعتقالات غير موجهة ضد النشطاء الكبار، بل ضد المسلحين الشباب الذين يشاركون في إطلاق النار على قوات الجيش. وأي قتيل آخر في عمليات الجيش الإسرائيلي يزيد الرغبة في الانتقام ويدخل شباباً آخرين إلى دائرة الاحتكاك. قدر الجيش بأن 200 مسلح فلسطيني يشاركون اليوم في نابلس. هذه أرقام لم تظهر في الضفة منذ سنوات، ربما منذ عملية “الدرع الواقي”، نقطة الانعطافة في الانتفاضة الثانية في 2002.
هناك أيضاً تغيير جذري مقارنة مع السابق؛ ففي الضفة الآن عدد أكبر من قطع السلاح. في ذروة الانتفاضة أيضاً شاركت أجهزة السلطة في القتال. وهذا لم يحدث في الوقت الحالي، لكن السلاح الآلي منتشر أكثر في الشارع الفلسطيني، وهو في متناول كل خلية محلية. هذا نتيجة نشاطات التهريب من الحدود مع الأردن، إلى جانب سرقات من الأراضي الإسرائيلية ومن قواعد الجيش الإسرائيلي. بدرجة معينة، هذه الظاهرة توازي ما يحدث في أوساط الجمهور العربي في إسرائيل. فهناك يستخدم السلاح بالأساس لأغراض جنائية. “خلال السنين، يذكر ارتفاع عدد قطع السلاح بازدياد عدد الهواتف المحمولة”، قال مصدر أمني كبير في الجيش للصحيفة.
الأجهزة الاستخبارية في إسرائيل لا تعرف التنبؤ بمتى ستحدث نقطة الانقلاب، التي ستجر الضفة إلى تصعيد كبير. أعلن قسم المخابرات في الجيش تحذيراً استراتيجياً قبل ست سنوات تقريباً حول اندلاع كهذا في “المناطق”، لم يتحقق حتى الآن. ولكن الإحباط في أوساط الجمهور في الضفة ازداد بشكل واضح خلال هذه الفترة. والانتقاد الداخلي لرئيس السلطة، محمود عباس، ازداد، وصراع الوراثة أصبح علنياً.
يجب أن نذكر الحرم في هذا السياق أيضاً. فقد اندلعت “حارس الأسوار” في السنة الماضية عندما قررت قيادة حماس إطلاق الصواريخ رداً على المواجهات في الحرم في شهر رمضان الذي تزداد فيه المشاعر الدينية، وأي نقاش محلي حول المسجد الأقصى يعتبر أمراً متعلقاً بالحياة والموت. مرت سنة، والخلافات حول الحرم في شهر رمضان هددت بإشعال جولة عنف أخرى، التي اندلعت في النهاية لأسباب مختلفة في آب. سيأتي رمضان أيضاً في السنة المقبلة، لكن ما يحدث في هذه الأثناء هو تآكل مستمر للوضع القائم في الحرم في صالح الجانب اليهودي وبصورة تغضب المسلمين. هذا يرتبط بتآكل التابو الديني على زيارة اليهود للحرم، إلى جانب استعداد الحكومة والشرطة للسماح بدخول عدد أكبر من الزوار.
تحتاج التغييرات إلى تعزيز التنسيق بين إسرائيل والأردن والأوقاف الإسلامية في الحرم، مع إعادة فحص الترتيبات القديمة التي يعرف عدد قليل مصدرها وماذا تقرر فيها. ملك الأردن، الملك عبد الله، يعبر بشكل دائم عن غضبه من سلوك إسرائيل، لكن الحكومات المتبدلة في القدس تعمل القليل جداً في هذا الشأن. وهي بدلاً من ذلك تسمح للحاخامات ولمنظمي زيارة الحجاج في الحرم بإملاء قواعد لعب جديدة مقبولة على الأردن وعلى الفلسطينيين. ومثلما في السابق، هذه الإملاءات قد تكون لها نتائج مدمرة على الأرض.
الجيدون واللامعون
كل ما وصف هنا يعرفه المستوى السياسي في إسرائيل. ولكن الانحراف المتواصل نحو اليمين، إلى ما سيقوله رئيس المعارضة بنيامين نتنياهو، يصعّب على الحكومة الانتقالية اتخاذ خطوات ستحاول تعزيز مكانة السلطة، ولا نريد الحديث عن استئناف العملية السياسية. يبدو أن المنافسة والعداء بين رئيس الحكومة يئير لبيد ووزير الدفاع بني غانتس (السياسي الوحيد الذي لا يحرص على إقامة علاقة مباشرة ومستمرة مع قيادة السلطة)، تشوش على ذلك. الخوف من الظهور بمظهر اليساريين جداً يشل أعضاء حكومة التغيير. ويجب الاعتراف بأن المستوى المهني أيضاً الذي يظهر قلقه في نقاشات مغلقة، لا يخرج عن أطواره لقرع جرس التحذير العلني. الأضواء الحمراء اشتعلت هنا، ومن المرجح أن تترجم إلى انفجار في وقت ما.
من الجدير ذكر شيء آخر، وهو أنه عند اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول 2000 كان يعيش في الضفة نحو 200 ألف إسرائيلي، أما الآن فعدد المستوطنين نحو 450 ألف شخص (حسب المكتب المركزي للإحصاء)، دون عد 300 ألف إسرائيلي يعيشون في الأحياء داخل القدس التي تقع خلف الخط الأخضر. ومثلما لدى الفلسطينيين، فإن قسماً كبيراً من هذا الجمهور لم يجرب الانتفاضة الثانية. الخطر الأمني الأساسي الذي يعرفه هو رشق الحجارة على الشوارع، وليس عمليات إطلاق نار. المستوطنات في الضفة توسعت مع مرور الوقت، وضمت إليها بالفعل المزيد من المساحات بفضل نشر البؤر الاستيطانية. وهناك مواجهة أخرى في الضفة ستحتاج إلى الدفاع عن مناطق أكبر مأهولة ووضع حماية دائمة حول عدد أكبر من الإسرائيليين.
في مثل هذا الشهر قبل خمسين سنة، نشر الصحافي الأمريكي ديفيد هلبرستان كتاباً بعنوان “الجيدون واللامعون”. هذا الكتاب الكلاسيكي يوثق تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام. وصف هلبرستان غرق أمريكا في النزاع القاتل وعديم الجدوى في ظل رئيسين هما الرئيس جون كنيدي والرئيس لندن جونسون، اللذين أحاطا نفسيهما بأفضل المستشارين.
قد يكون النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني معقداً أكثر؛ فهو أيضاً لا يجري على بعد 13 ألف كيلومتراً عن الوطن، بل أمام الجار الموجود في البيت المقابل. وحتى الآن، يصعب عدم الانتباه إلى أوجه التشابه، التي يقف على رأسها تصميم على تجاهل كل ما يبثه، ويشير إليه الفلسطينيون وكأن إسرائيل تعمل في فضاء فارغ. هذا مصدر الإجماع الغريب الذي ساد في السنوات الأخيرة هنا، والذي سيكون، بحسبه، بالإمكان مواصلة إدارة النزاع إلى الأبد دون تحمل أي نتائج في ظل غياب اتفاق سياسي في إسرائيل على الحل المرغوب فيه. هذا يبدو مثل وهم يتحطم على صخرة الواقع في نهايته.