بقلم: توفيق رباحي
المؤلم أكثر من ألم الحرائق التي اجتاحت مناطق شرق الجزائر في الأيام الماضية وأوقعت عشرات الضحايا وخسائر مادية هائلة، هذا العجز الفادح عن التعلم من تجارب الماضي القريب.
في مثل هذا الشهر من العام الماضي احترقت منطقة القبائل في كارثة غير مسبوقة في تاريخ الجزائر المستقلة. كانت مأساة وطنية كبرى مزّقت القلوب وأبكت الحجر. بالنظر لفداحتها وعمق الألم الذي سبَّبته للجزائريين، أفرادا ومجتمعا، كان يجب أن تكون تلك المأساة درسا يحفظه المسؤولون الجزائريون ويتعلمون منه لعشرات السنين المقبلة.
لكن لا حياة لمن تنادي.
إخفاق آخر مماثل بعد سنة واحدة بالضبط. تغيّرت الجغرافيا فقط.
جميلة جدا مظاهر التضامن الإنساني التي أبداها الجزائريون أثناء مأساة القبائل صيف العام الماضي، وتلك التي يبدونها منذ اندلاع موجة حرائق شرق البلاد. هذا ليس غريبا على مجتمع تعلّم التكافل بعيدا عن الجهات الرسمية والنظامية.
لكن التضامن لا يكفي ولا يجب أن يلغي جانب المسؤولية الإدارية والجنائية.
هناك أسئلة يجب أن تُطرح وتجد لها أجوبة. وهناك محاسبة يجب أن تأخذ مجراها عاجلا غير آجل.
الذي أخفق في وضع خطط الاستعداد لموجة الحرائق وبرامج مواجهتها يجب أن يُحاسَب بالقدر ذاته الذي يجب أن يُحاسب به مَن أشعل النيران أو تسبب فيها.
العام الماضي اتهمت السلطات حركتي “رشاد” و”الحكم الذاتي للقبائل” بإشعال النيران في منطقة القبائل “بهدف إثارة فتنة وطنية”. كانت تلك الاتهامات أقرب إلى محاولة هروب من تحمل المسؤولية، لكن السلطات تمسكت بمزاعمها مراهنة على عاملي الزمن والنسيان.
هذه المرة امتنعت السلطات عن تسويق الاتهامات للحركتين، لأنها غالبا أدركت ألا أحد سيصدقها.
الجديد هذه المرة، إلى جانب التقصير في وضع خطط عملية للوقاية من النيران والتصدي لها، أن أخبارا كثيرة محزنة ومخزية ترددت عن تقصير رسمي قاد إلى الكارثة الجديدة. أخبار طرحت من الأسئلة أكثر مما قدمت من الأجوبة. وما عمَّق الغموض والألم، الصمت الحكومي غير المبرر عن قول الحقائق وعن الاعتراف بالتقصير.
بعض هذه التقارير أشارت إلى إلغاء السلطات الجزائرية صفقة شراء طائرات مخصصة لمحاربة الحرائق من شركة إسبانية. في زخم صدمة حرائق القبائل العام الماضي تحركت السلطات لاقتناء طائرات مخصصة لإخماد الحرائق من شركة “بليزا” الإسبانية.
وبعد أن تقدّمت الصفقة واقتربت من بدء التنفيذ، اتخذت هذه السلطات قرارا كارثيا بإلغاء الصفقة من جانب واحد قبل أسابيع معدودة من موعد الكارثة الجديدة، على خلفية أزمة مع الحكومة الإسبانية بسبب موقفها من نزاع الصحراء الغربية، في خلط غريب بين المصالح العليا للبلاد والخلافات السياسية العابرة.. خلط ينم عن انعدام خطير للنضج السياسي وحس المسؤولية الوطنية.
على السلطات الجزائرية أن تشرح لمواطنيها ماذا حدث ولماذا. هذا أقل الواجب تجاه مجتمع لا زال يدفن أبناءه من ضحايا الحرائق الجديدة. ومن حق الجزائريين أن يطالبوا بهذا الحد الأدنى من التوضيحات والاعتراف بالمسؤولية.
واجب السلطات أيضا أن تشرح للجزائريين لغز الطائرة اليتيمة التي استأجرتها من روسيا لإخماد الحرائق، وأقامت الاحتفالات أثناء استقبالها قادمة من موسكو، ولماذا تعطلت في أول طلعة جوية لها لتنفيذ المهمة التي استُأجرت من أجلها.
كيف تتعطل طائرة في أول مهمة ولماذا؟ لا يمكن عزل الأمر عن فساد في مستوى ما، أو تقصير يجب أن تتبعه محاسبة وعقاب.
نحن أمام كارثة وطنية يستحيل أن تقلل من مأساويتها تلك التقارير البائسة في الإعلام الجزائري عن اعتقال شخص بحوزته ولّاعات أو قناني بنزين وتقديمه للعدالة. وهذا الذي ألغى صفقة الطائرات مع إسبانيا من سيحيله للعدالة؟ والذي قصّر في وضع خطط الوقاية من النيران مَن يعتقله؟ وهل سيُحاكَم الذي أرسل رجال الإطفاء والجنود لإطفاء نيران ضخمة تلتهم مئات الهكتارات في الساعة بالمناكيش والمجارف اليدوية؟ مَن سيقتص للجزائريين من الذين جعلوا بلادهم لغمة سائغة أمام النيران والفيضانات والزلازل والأمطار وكل أنواع الكوارث الطبيعية حتى التي يسهل توقعها والسيطرة عليها؟
قد تبدو هذه المطالب من ترف الحديث في بلد راكم مسؤولوه رصيدا هائلا من الإفلات من العقاب، ولم يفتحوا تحقيقا واحدا في مقتل 250 ألف من مواطنيهم وتشريد مثلهم أو أكثر داخل البلاد وخارجها. كما قد تبدو غير واقعية في مجتمع استسلم للأقدار فبات يضع كل إخفاقاته ومآسيه تحت يافطة “قدّر الله وما شاء فعل”.
الحقيقة المُرّة أن منع المحاسبة في حرائق منطقة القبائل وولايات شرق البلاد، لأي سبب كان، يعني ببساطة أن على الجزائريين أن يستعدوا لكوارث أخرى مماثلة في العام المقبل والأعوام التي تليه. ويعني أن على سكان القرى والبلدات المتاخمة للجبال والغابات أن يستعدوا للموت حرقا واختناقا الصيف المقبل لأن الحرائق حتما ستتكرر بعد أن أصبحت جزءا من ديكور صيف بلدان البحر الأبيض المتوسط.
وما يجعل الأمـر أكثر واقعية وخطورة في الجزائر أكثر من غيرها أن السلطات لا تتذكر النيران إلا بعد أن تندلع وتتسبَّب في كوارث.. لا تضع خططا استباقية، لا تهتم ببرامج بعدية، لا تعترف بشيء اسمه الترغيب والردع ليدرك المجتمع جدية الموضوع ويتحمل نصيبه من المسؤولية فيه، وعبارة الاحتباس الحراري دخيلة عنها وعن قاموسها اللغوي.
مقولة “الأزمة تلد الهمّة” أصبحت نسبية في الواقع الجزائري. لقد أصبح ضروريا أن تقابلها “الأزمة تلد أزمات أخرى إذا رفض المأزوم التعلم من مصيبته”.