بقلم: عوض عبد الفتاح
عادت الجولة العدوانية الأخيرة على المقاومة في قطاع غزة، فتح الأسئلة الكبيرة بحدة أكبر من السابق، وعلى نطاق أوسع، والجدل بشأنها لم يخبو. وتجاوز هذا الجدل، هذه المرة، طرفي الانقسام، أو محوري المقاومة والاستسلام، ليتوسع داخل النخبة والقاعدة الشعبية المؤيدة للمقاومة. واتخذ الجدل منحى استقطابيًا، الأمر الذي أثار الخوف من تعميق الانقسام داخل صفوف المقاومين، أو جمهور المقاومة الفلسطينية، المقتصرة منذ سنوات طويلة على الشعب الفلسطيني.
والمقاومة لا تعني فقط الشكل المسلح، فالمقاومة الشعبية، بشكلها السياسي والثقافي، والاقتصادي، والفني، والتعليمي، هي أيضا نموذج فعال وقادر على إحداث تغيير ساحق.
أما الأقلام المتزنة، والتي تناولت الحدث بمسؤولية، توارت عن عيون وعقول العامة، خاصة وأن لحظة الحدث، والحدث نفسه، مُفجرٌّ للعواطف والغضب، على حساب التأني والحسابات العقلانية.
تَركّز جلَّ الجدل على مسألة عدم دخول حركة “حماس”، إلى جانب حركة الجهاد الإسلامي، في التصدي للعدوان الصهيوني الغادر، وذهب البعض إلى حد تخوين حركة “حماس”. مع أنه لم يخرج أي تصريح من قادة “الجهاد” ضد “حماس”، بل جرى التأكيد على تشكيل غرفة عمليات مشتركة.
وقبل الدخول في صلب الموضوع، والتطرق إلى ما غاب عن النقاش، وعن الجدل المحتدم، هناك معطيات واقعية ومتناقضة، وآراء بخصوصها، يعيشها الشعب الفلسطيني تؤثر به ويؤثر بها، لابد من التذكير بها؛
أولا، يعيش الشعب الفلسطيني منذ سنوات طويلة، ترسُّخ حالة الانقسام في جسم الحركة الوطنية، وحالة فصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، ناهيك عن التجزئة الاستعمارية الأكبر بين كافة التجمعات الفلسطينية، في الداخل والشتات.
ثانيا، فشل كل محاولات استعادة الوحدة وإصلاح واستعادة منظمة التحرير الفلسطينية من فريق أوسلو.
ثالثا، تعمق حالة التطبيع بين سلطة أوسلو ونظام الأبارتهايد، وتعاظم سلطوية رئيس السلطة، واتساع بنية الفساد.
رابعًا، نشوء تيار عربي إقليمي متصهين، تجاوز التطبيع الدبلوماسي، إلى تحالف أمني، لحماية الأنظمة، وله امتداد داخل الخط الأخضر، على شكل تحالف مع نظام الأبارتهايد والصهيونية.
خامسا، تهميش قضية فلسطين من قبل ما يسمى المجتمع الدولي.
سادسا، انتصار أنظمة الاستبداد على شعوبها لتتكشف حجم جريمتها الأصلية المتمثلة في الفشل في إقامة دولة مدنية حرة وعادلة، والفشل في تحرير الأرض الفلسطينية والعربية.
في مقابل هذه المعطيات؛ هناك في المقابل معطيات مختلفة أخرى، واعدة، وهي تمثل مفارقة هامة:
أولًا، تشهد فلسطين نهوضًا في الوعي، وحراكات شعبية متواترة، وبموازاة ذلك ازدهارًا في الانتاج المعرفي عن التحرر والقضية الفلسطينية، وفي المبادرات الكثيرة التي تسعى لإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الجامع، وللتمهيد لنشوء قيادات جديدة مؤهلة لقيادة المشروع.
ثانيا، تطور بنية المقاومة في قطاع فلسطيني صغير الذي يعيش معظم سكانه في فقر مدقع، ونمو قدراتها اللافتة لإدارة مقاومة للعدوان لأيامٍ طويلة، تحت القصف المكثف من جانب أكبر وأحدث ترسانة عسكرية في المنطقة. وإن التمعن في نموذج المقاومة في قطاع غزة، في قطاع تحاصره إسرائيل منذ عقد ونصف، من البحر والجو والبر، ويشارك في حصاره نظام عربي من الجنوب، سيترك أي مراقب موضوعي في حالة من الدهشة، ويقوده إلى رؤية ذلك بصفته فعلًا أسطوريّ.
ثالثا، عدم قدرة إسرائيل على انتصار حاسم في أي جولة عدوانية، رغم الخسائر البشرية الفادحة في صفوف الشعب الفلسطيني، ناهيك عن الخسائر المادية الكبيرة وما يخلفه ذلك من معاناة وبؤس معيشي شديدين.
كل ذلك يعيد التأكيد على حقيقة قاطعة، أن شعب فلسطين سيبقى الرقم الصعب، وسيواصل المقاومة من أجل حريته، لأن لا خيار له غير ذلك.
لا تعني هذه المعطيات الهامة وجود وضوح في كيفية تطور مسار المشهد الفلسطيني، في الحاضر والمستقبل، أو امتلاك اليقين من جانب أي من القوى على الساحة الفلسطينية. فكل معركة تفتح أسئلة قديمة وجديدة، دون أن تحسم الأهم فيها، ألا وهو لماذا تنتهي كل معركة، وهذه التضحيات الهائلة، بلا مكاسب سياسية، أو حتى تخفيف الحصار عن قطاع غزة، فكيف يجب استثمار تلك الروح المقاتلة لدى طلائع هذا الشعب، كيف تنتهي المعركة القادمة بنتائج فعلية، كيف يجب تقليل الخسائر البشرية الفادحة، وكيف نتمكن من مضاعفة قوة الصمود، وكيف نبني بصورة أفضل.. وما هي أفضل إستراتيجية مقاومة في المناخ الفلسطيني والعربي والدولي الراهن، وفي المقابل مستعمر يزداد صلافة ووحشية ورافضا لأي من الحقوق الفلسطينية. وهل تحرير فلسطين يقع على كاهل غزة، أليس ذلك ظلما كبيرا، وعطبًا بالغا أن نعجز عن توحيد الساحات، وتقسيم الأعباء؟
تغليب المقاومة الشعبية
يستدعي الظرف الحالي إعادة فتح سؤال إستراتيجية المقاومة الشعبية، خاصة بعد الجولات العدوانية الصهيونية على قطاع غزة، وغيرها من المناطق. لقد أثبتت التجارب الفلسطينية الحديثة والقديمة أن هذه الإستراتيجية الأكثر قدرة على تجميع الشعب الفلسطيني، وتفعيل كل طاقاته وشرائحه وكافة تجمعاته. نعم أثبتت هذه الإستراتيجية نجاعتها، في خلق وعي موحد، حول فلسطين، ولكنها للأسف لم تمنح مرة واحدة مداها المطلوب.
وآخر مثال كان انتفاضة أيار/ مايو عام 2021، انتفاضة الوحدة والكرامة. ربما ينسى الكثيرون أن الحراكات الشعبية في باب العامود، والأقصى، والشيخ جراح، هي التي حرّكت كل الشعب الفلسطيني، ودفعته إلى الشوارع، وحتى قبل أن تدخل حركة “حماس” على خط المواجهة.
صحيح أنه لا يستطيع أحد أن يجزم بأن دخول “حماس” كان سببا في توقف الحراكات الشعبية الشاملة والجسورة، في كل فلسطين التاريخية، ولكن ذلك احتمال وارد، لكن الحقيقية هي أن وحدة الناس سبقت صواريخ “حماس”، وهذا كان يوجب التفكير جديًا بضرورة إعادة طرح المقاومة الشعبية على طاولة الفصائل الفلسطينية كإستراتيجية حقيقية، خاصة أن إسرائيل واصلت رفض مطالب المقاومة، رغم الصمود الأسطوري الذي جسدته فصائل المقاومة في التصدي للعدوان.
طبعا لكل شعب، واقع تحت الاحتلال والحصار والاستعمار، الحق في الدفاع عن نفسه بكل الوسائل شرط عدم المس بالمدنيين، هذا ما تقره القوانين والأعراف الدولية. لكن قيادة الشعوب اختارت أيضا الوسائل التي تلائم ظرفها في كل مرحلة من مراحل الصراع، والتي تؤتي نتائج أفضل بأقل الخسائر. فليست المسألة إما السيف وإما المقاومة الشعبية، أو تقديس الكفاح المسلح، أو أي وسيلة أخرى.
في مراحل معينة يمكن اعتماد المقاومة الشعبية، كما فعل شعبنا الفلسطيني، في بدايات الغزوة الصهيونية، المسلحة، أوائل القرن العشرين، أو اعتماد الكفاح المسلح في مرحلة لاحقة، كما فعل الفلسطينيون ضد الاستعمار البريطاني والمنظمات الصهيونية المسلحة، بعدما رفضت بريطانيا والصهاينة العرائض، والمناشدات، والحراكات السلمية، مثل المظاهرات ومقاطعة البضائع الصهيونية، التي لجأت إليها قيادات الشعب الفلسطيني.
وبعد تمكن الحركة الصهيونية من احتلال فلسطين عام 1948، لم يترك لفصائل العمل الوطني سوى ما أقرته القوانين الدولية من وسائل كفاحية ومنها العمل المسلح، الذي لعب دورا مهما في بلورة الحركة الوطنية وهوية الشعب الفلسطيني، في الستينيات والسبعينيات، وذلك قبل أن يدخل هذا الخيار، أو طريقة إدارته في أزمة حقيقية.
وكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عام 1987، نموذجًا فريدًا في المقاومة الشعبية، اجترحه شعب فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد أن اكتشف دخول العمل المسلح في مرحلة أفول. صحيح أن المحتل الاسرائيلي مارس القتل ضد المنتفضين، ولكن مفعول هذه الانتفاضة المجيدة، داخليًا، واجتماعيًا، وسياسيًا وإعلاميًا على المستوى الخارجي لصالح قضية فلسطين كان هائلًا.
ولم تُتلف نتائج هذا الكفاح الشعبي الجماعي البطولي الذي استمر لأكثر من أربع سنوات، إلا سوء إدارة القيادة الفلسطينية التي كانت لا تزال في الخارج، وتبحث عن حل سريع لمـأزقها، بعد خروجها من بيروت عقب العدوان الصهيوني عام 1982. وتبين لنا أن بنية هذه القيادة، التي أطلقت بنجاح الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، وأعادت توحيد الشعب الفلسطيني، وبلورة الهوية الوطنية الفلسطينية، غير مـؤهلة لتحقيق أي نصر حقيقي. فانتقلت من هدف تحرير فلسطيني، وإقامة الدولة الديمقراطية الواحدة في كل فلسطين، إلى حل الدولتين، وانتهاء بحكم بانتوستان، وإلى وكيل للمستعمر. وباتت الدبلوماسية الوسيلة الوحيدة، وهي دبلوماسية مترددة، وغير واثقة، ولم تحقق أي إنجاز فعلي.
على خلفية هذا الفشل الذريع لقيادة منظمة التحرير، نشأت قوى فلسطينية جديدة، بأيديولوجيا دينية، تحولت إلى قوى مسلحة، مقاومة، ساهمت وتساهم في إعادة حقن الصراع، مع المستعمر، باعتباره صراعًا ضد مستعمر، وليس نزاعا بين دولتين.
غير أن هذه القوى، تواجه تحديات كبرى، واجهتها القوى الفلسطينية الآفلة، سواء على المستوى السياسي، مثل القبول بحل الدولتين، وتقديس الكفاح المسلح، على حساب العمل الشعبي، فضلا عن إقامة علاقات ملتبسة ومتناقضة مع الأنظمة العربية وقوى إقليمية، وهو شبيه بنهج حركة “فتح”.
هذه القوى، رغم كفاحيتها، لم تنجح في تقديم مشروع وطني جامع للكل الفلسطيني، ذي مضمون تحرري وطني مدني، فظلت، رغم التعديلات على برنامجها، محصورة في رؤيتها الأيديولوجية أو العقائدية، ولم تجتهد في مخاطبة الأجيال الجديدة ذات التفكير التحرري الحديث، كما لم تقدم نموذجا جذابًا للحكم.
وثانيا، لم تعكف جديًا على صياغة إستراتيجية مقاومة شعبية. صحيح أن غالبية الفصائل، بما فيها حركة “حماس”، بدأت تتحدث بجدية عن المقاومة الشعبية، منذ سنوات قليلة، خاصة بعد نجاح المعارك الشعبية في القدس وأحيائها، كما تبنت ودعمت مسيرات العودة على السياج، ولكن كل ذلك لم يكتمل، ولم تولى جدية حقيقية في بلورة إستراتيجية مفصلة، وتعبئة وتثقيف كوادر الفصائل، على كيفية ممارسة هذا النموذج من المقاومة، استنادًا إلى تجارب الشعب الفلسطينية الغنية، وتجارب شعوب أخرى مثل جنوب أفريقيا وغيرها.
لا تستطيع غزة وحدها تحرير فلسطين، ولا مطلوب منها ذلك، فالتحرير هو حمل الشعب الفلسطيني كله، بل حمل الشعوب العربية. لكن شعب فلسطين، بحكم وقوعه مباشرة تحت نير الاحتلال الاستيطاني، هو الذي يجب أن يؤدي دور رأس الحربة. ولكي يلعب هذا الدور بنجاعة، وبأقل الخسائر، يجب أن تتوفر الشروط اللازمة، أهمها وحدة وطنية كفاحية، رؤية سياسية، تحررية، واضحة، وإستراتيجية نضال بعيدة المدى، مؤثرة وناجعة، يستطيع الشعب تحمّل تبعاتها. وفي كل مرحلة قادمة، يجتمع القادة، ويقررون أي الوسائل تناسب هذه المرحلة، أو تلك.
إن أنجع الوسائل في هذه المرحلة العصيبة، هو المقاومة الشعبية، ويجب أن تكون مقرونة بإيمان حقيقي أنها الأفضل، وأنه بإمكانها تحقيق تحرر شامل، ويجب أن يحدونا الامل بأن يتحقق هذا الهدف عبر هذه الإستراتيجية.
وهو أفضل لنا وأفضل لمستقبل هذه البلاد، والعيش المشترك القائم على العدالة، والمساواة. وإذا لم يتحقق ذلك في السنوات القادمة، أي إذا واصل الاحتلال صلفه، فستجد الأجيال الجديدة، أشكال نضال أخرى تناسب الظرف المستجد، وتلائم قدرات الشعب الفلسطيني، التي ستكون قد وصلت إلى مستوى أفضل بكثير. وحتى مع استعداد وممارسة الحركات والفصائل إستراتيجية للمقاومة الشعبية، ستظل ساحة الصراع تشهد ظاهرة الفدائي الفرد الذي يتخذ قراره دون توجيه أو تعليمات من أي جهة كانت. فواقع القهر شديد الوطأة، يدفع العديد من الأفراد لاختيار هذا الطريق، وهذا نتاج طبيعي لوحشية المستعمر.