بقلم: د. أحمد يوسف
منذ أن قامت إسرائيل والرواية الغربية تقف منحازة إلى جانبها، ولهذا أسباب كثيرة تطورت وتشعبت حتى بات يعرفها كلّ من يعمل في حقل السياسة والإعلام، فإسرائيل منذ إعلانها كدولة على أرض فلسطين عام 1948 وهي تعمل على تسويق روايتها في ثوب الضحية، وتتخذ من الإعلام الغربي وخاصة الأمريكي -الأوسع تأثيراً وانتشاراً- وسيلة ًلنقل مواقفها وقراءاتها لكلِّ ما يتعلق بها ودائرة الصراع المفتوحة مع محيطها العربي والإسلامي وعمقها الفلسطيني، الذي هو على احتكاك مباشر معها عسكرياً وسياسياً وثقافياً، ولذلك لم تألُ جهداً في العمل على كلِّ المستويات الإعلامية والسياسية لكسب تأييدها وتبني روايتها ومشاركتها في إعادة صياغة كل ما يتطلبه ذلك من مصطلحات وكيٍّ للوعي وخرقٍ للقناعات، لأجل إعادة صياغة توجهات الرأي العام وتغيير قناعاته للمسار الذي تأخذه إليه البوصلة الصهيونية، والذي يعززُ من تثبيت هذا الكيان على أرضٍ تمَّ احتلالها وطرد الغالبية العظمى من سكانها ظلماً وعدواناً عام 1948م.
إن إسرائيل كانت تعلم أن تحديات وجودها على هذه الأرض كبيرة، وتفرض عليها ألا تقتصر في تفوقها على الآلة العسكري فقط رغم أهميتها، ولكنَّ هناك تحدٍّ آخر بانتظارها وراءها تحدٍ آخر وهو التمكين لروايتها للانتصار في معركة الرأي العام العالمي.
وعليه، كانت إسرائيل وأجهزتها الحكومية تعطي للماكينة الدعائية الأولوية للعمل في الفضاءات الإعلامية، وتسخر لها أفضل الكفاءات والطاقات والإمكانات المادية، وأيضاً دعم الدولة العميقة من الجنرالات والسياسيين والدبلوماسيين، بما يكفي لتغذية هذه الماكينة الدعائية بالمعلومات والعلاقات التي تُمكِّنها من الوصول لجهات التأثير في الرأي العام الغربي، عبر صحفه ومجلاته وقنواته الفضائية.
لقد نجحت إسرائيل في كتابة سرديتها، وحمَّلت جزءاً من تسويقها لجالياتها اليهودية المتواجدة بأعداد مؤثرة وبإمكانيات مالية كبيرة، وذات قوة انتخابية يُحسب لها ألفَ حسابٍ في الحواضر الغربية.
لم تقتصر ماكينة الدعاية الإسرائيلية ورجال المال اليهود في الغرب على التسويق العفوي والمجاني، بل سيطرت عبر رجال المال والأعمال اليهود على سوق الصحف والمجلات في العوالم الغربية، وضمنت توجهات وأفكار وسياسات تحريرية تخدم أجندتها الإعلامية وعلاقاتها السياسية، ثم توسعت أكثر من خلال تزيد الوعي بالرسالة الإعلامية، في عالم أصبحت فيه الكلمة أَحدَّ من السيف، وأبلغَ وقعاً في عمليات الاستهداف والشيطنة لكلِّ خصومها.
إنَّ من البديهي القول: إنَّ حضور المال اليهودي كان كبيراً في امبراطوريات الإعلام الغربية؛ سواء أكان على شكل وكالات عالمية، مثل: أسوشيتدبرس ورويترز والفرنسية أو شبكات تلفزيونية تصل إلى كلِّ مكان في العالم، ولها مراسلون “مُبرمجون” لحفظ الرواية الصهيونية بشكلها المنحاز دائماً لإسرائيل.
لقد أخذت إسرائيل بكل تطور في مجال الإعلام، بهدف الوصول إلى الجمهور، وهي قد بلغت شأناً تقدمت فيه على الكثير من دول العالم.. فمثلاً على مستوى الإعلام الرقمي والدبلوماسية الرقمية، تحظى إسرائيل بالمكانة التاسعة بين دول العالم، وأن قدرات تأثيرها في الرأي العام الأمريكي ما تزال أكثر من 70% لصالح الرواية الصهيونية، وربما قريباً من ذلك في دولٍ أوروبية عديدة.
ورغم الكثير من الكتابات والدراسات التحليلية التي تناولت مسألة الانحياز في الإعلام الغربي لإسرائيل، من حيث الأسباب والدواعي، فإن بالإمكان الإشارة لبعضٍ منها، والتي أرجعت الأمر إلى اعتبارات دينية، من حيث الموروث التاريخي اليهودي المسيحي، وقناعات المجموعات الكنسية الأصولية بالعمل على دعم إسرائيل ومساندتها وتأييدها، وتسخير كل ما لديها من إمكانيات دعائية لها، بغرض توطين روايتها في الذهنية الغربية المسيحية، إلا أن هناك جهوداً أخرى تلعبها اللوبيات الصهيونية في الدول الغربية وخاصة أمريكا، ومن بينها اللوبي الأوسع انتشاراً وتأثيراً على صانعي القرار في الكونغرس والبيت الأبيض، وهو لجنة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية (إيباك)، والتي تمتلك قدرات مالية وتصويتية هائلة، من خلال تحريك مجموعات العمل السياسي (باك) في الولايات الأمريكية الخمسين، لدعم وتنشيط الحملات الانتخابية لصالح هذا المرشح أو ذاك لضمان تأييده ووقوفه إلى جانب إسرائيل في الكونجرس وتمرير السياسات التي تخدم مصالح إسرائيل مع الإدارة الأمريكية.
وإذا أخذنا في الاعتبار اليوم ما نجحت إسرائيل في تكديسه من أسلحة تُرهب بها كلَّ من يحاول تجاوز روايتها وتبني الرواية الفلسطينية، وهو الاتهام بـ”معاداة السامية”، بكل ما يعنيه هذا الاتهام من تهديد للشخص المستهدف، سواء أكان إعلامياً أو سياسياً، وتوعده بالملاحقة والشهير وتشويه السمعة، وحتى التهديد بقطع الرزق وسدِّ أبواب العمل في وجهة، ليظهر في المشهد وكأنه “مطرود من رحمة الله”!!
لقد استثمر اليهود حول العالم مليارات الدولارات في الإعلام بشقيه التقليدي والرقمي، وكذلك من خلال تأسيس الكثير من مجموعات الضغط السياسي، وكل ذلك بهدف تحصين سمعة إسرائيل عالمياً، وإبقائها متصدرة لسوق الرواية والتحكم في الرأي العام العالمي.
ومع التسليم بأن الشعب الفلسطيني اليوم هو صاحب المظلومية الأولى والأقدم في العالم، وهو من يتعرض للكثير من أشكال الحرب والعدوان الإسرائيلي، وهو الضحية التي تجاوزت صراخاتها قرع أسماع العالمين بالصوت والصورة على شاشات التلفزة، في مشاهدٍ تُحرك كلَّ إنسان صاحب ضمير، ولكن للأسف هناك دائماً ما يضلل جمهور المشاهدين، كتلك التصريحات التي يطلقها مسؤولون كبار في الغرب، بالقول: إن إسرائيل لها حق الدفاع عن نفسها!! وكأن هؤلاء الضحايا من النساء والأطفال هم من يقود معركة إنهاء وجود إسرائيل!!
للأسف، الغرب ووسائل إعلامه المنحازة ظلماً لإسرائيل، هي اليوم -وربما منذ العام67- هي ذراع الجلاد الإسرائيلي، والضحية الفلسطينية لا تجد -واحسرتاه- من يبكي دموعها، فأصحاب الضمائر في الغرب تبلدت مشاعرهم، ولم يعد هناك ما يحرك إنسانيتهم، إذ نجحت إسرائيل وسط تطويراتها الإعلامية في تخديرهم وإسكارهم بِنخَبِ الدم الفلسطيني.
في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، واجهنا ستة حروب فتحت فيها إسرائيل النار والمحارق على شعبنا في قطاع غزة، فقتلت الآلاف منهم وجرحت عشراتٍ أمثالهم، وهدمت بكلَّ وحشية البيوت فوق رؤوس ساكنيها، واجتثت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ودمرَّت المصانع والشركات الإنتاجية في القطاع وسوتها بالأرض، وحاصرت الفلسطينيين في القطاع بما يشبه السجن الكبير وغلَّقت عليهم الباب، وسمحت فقط بما يحفظ الرمق على مستوى الطعام والشراب والكهرباء.
إنَّ مشهد التعامل الإعلامي الغربي مع قطاع غزة لم يتغير بل نراه يزداد سوءاً عاماً بعد عام.. وبكل أسفٍ، فإن المتابع لهذا المشهد يلحظ بكل جلاء ووضوح غياب أي تحسن على مستوى المصداقية وتوازن التغطية، بل تعاظم لمستويات الانحياز وفنونه، وقد تمت مأسسته في وسائل الإعلام العالمية الكبرى، على شكل مصطلحات وأشكال الرواية وزوايا الصورة ومصادر تلقي الخبر والتعليق عليه…الخ
اليوم، ومع هذا الكم من التحيز، أصبح خطاب الضحية غير مُشاهد ولا مسموع، رغم أن ميدان الذاكرة الإعلامية مليء بآلاف الصور من المجازر الدامية ومظاهر التطهير العرقي، التي تكفي لوضع ليس فقط جنرالات إسرائيل وجنودها ومستوطنيها في قفص الاتهام أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية، لارتكابهم جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية، بل هذه الدولة المارقة بكل مؤسساتها السياسية والقضائية وحتى الدينية، دونما استثناء لأحدٍ منهم؛ فأيديهم وضمائرهم وإنسانيتهم ملطخة بدم أطفال فلسطين ونسائها.
ختاماً.. إن ما قدَّمناه هو فقط توصيف لواقع معاش قد لا نستطيع تغيير الكثير منه، حيث إن العجز والوهن والتشظي القائم بيننا اليوم كفلسطينيين هو من يحدد ملامح وتوجهات البوصلة، إذ إنَّ كلَّ المؤشرات تقول: إن عدونا ما زال يملك أدوات التفوق علينا، ولديه الكثير من أوراق التأثير الواسع في أروقة السياسة وفضاءات الإعلام الغربي بما يضمن انحيازه الدائم للرواية الإسرائيلية، وأننا كفلسطينيين لا نملك -للأسف- مهارات العرض والقدرات اللغوية الكافية لتقديم روايتنا، إلا من خلال مشاهد الغناء والدبكات الشعبية!!