كتب: د. أحمد يوسف
يا أبا الوليد: ليس من الحكمة نكأ الجراح!!
لقد تابعت برنامج “الجانب الآخر” للإعلامية المتألقة عُلا فارس على فضائية الجزيرة بتاريخ 12 أغسطس 2022م، والذي تناول جزءاً مهماً من حياتك الاجتماعية ومسيرتك الدعوية والنضالية، والتي كانت تتويجاً لعمر ناهز الخمسين عاماً من التزامك الإسلامي وهمَّتك العالية كقائد وزعيم لحركة حماس، والذي يشهد لك به كل من عرفوك ميدانياً -وأنا منهم- إذ كنت رُبَّاناً ماهراً لسفينتنا الدعوية والجهادية، ولعقدين من الزمن كنت فيهما الرجل الأول لحركة حماس ورئيس مكتبها السياسي، وكنت في تعاملك مع الآخرين متوازن الخُطى والمواقف بوعيك ورحابة صدرك، إضافة إلى أدبك الجمّ وخُلقك الجميل.
لقد أثار ما ذكرته عن دحلان في لقائك مع فضائية الجزيرة -وإن كانت جملة عابرة- عدة تساؤلات، وكثير من عتب بعض أصدقائنا في “تيار فتح الإصلاحي”، استدعت أن أخط بقلمي ما يشبه النصيحة لمن علَّمنا “أدب الخلاف”، وكانت فحوى توجيهاته لكوادر الحركة دائماً “وقولوا للناس حسنا”.
أخي أبا الوليد.. علينا أن نعترف أننا جميعاً كفلسطينيين ارتكبنا أخطاءً بحق بعضنا البعض، وإن كان لكلِّ طرفٍ منَّا روايته لتبرير أخطائه وتحميلَ الآخر كلَّ الجُرم والخطيئة.
ولكن وهذه حقيقة، إننا ومنذ أكثر من عقد ونصف العقد ونحن نحاول أن نتجاوز صفحات كانت مليئة بالأخطاء والزلات وأشكال عجيبة من المراهقة السياسية، التي لم يسلم من عثراتها أحدٌ من تنظيماتنا وفصائلنا الفلسطينية.. لقد حاولنا أن نُلملم تداعيات تلك الأخطاء وترميم ما تمَّ تخريبه في علاقاتنا الوطنية ونسيجه الاجتماعي خلال سنوات الصراع السابقة على مشهد الحكم والسياسة، وكنَّا نحذر من مشهدية “التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً”، خشية العودة إلى مربع الفلتان الأمني والاتهامات الجارحة.
يا أبا الوليد.. أنت واحد من بين الأشخاص الأكثر نُضجاً وحكمة في حركة حماس، ويقع على كاهلك الجهد الأكبر من أجل ترميم ما تصدع من صرحنا الفلسطيني، والعمل على إصلاح ذات البين بين أهله وساكنيه؛ لأن البيت المنقسم على نفسه -كما تعلم- لا يمكنه الصمود. ونحن كم أمامنا من التحديات في الوطن والجوار، وهذا يتطلب رؤية وحكمة ورصّ الصفوف.
إنَّ ما قلته في لقاءك مع فضائية الجزيرة عن دحلان يأخذنا بعيداً إلى مناكفات الثقافة الحزبية والقبيلة، بعدما اعتقدنا أن ما فات مات، وأن تلك الأيام لن تعود ذكرياتها للتداول، إذ نحن اليوم -يا أبا الوليد- في ساحة الوغى مجتمعون ونناضل معاً للحفاظ على ثبات شعبنا وصموده على أرضه بكل ما تعني هذه الكلمة من معانٍ، وهناك الكثير مما يجمعنا مع من كانوا خصوماً لنا، وخاصة بعدما بنينا رأس جسرٍ نأمل أن نحقق باكتماله عبوراً إلى برِّ الشراكة السياسية والتوافق الوطني.
يا أبا الوليد.. ما زلت وستظل في قلبي الأخ الكبير والحكيم، وإذا كانت هناك أخطاءٌ لدحلان في ذلك الذي ذكرت بالمقابلة، فهو في الحقيقة لم يكن يتصرف من رأسه، ولكنه قرار حركة فتح؛ التنظيم واللجنة المركزية، ونحن من طرفنا لسنا مبرأين من كلِّ عيب أو خطأ؛ لأن ما ذكرته عن دحلان جاء في وقت استعرت فيه الخصومة التي أعقبت خسارة حركة فتح للانتخابات التشريعية عام 2006، وكان الكلُّ في تلك الفترة يطلق العنان للغة التهديد والوعيد، ولم نسمع عن أحدٍ قطع لسانه إكراماً للوحدة الوطنية: إن ما أوردته كاستشهاد نقلاً عن مجلة (vanity fair) الأمريكية ربما كان عملاً إعلامياً مدروساً هدفه -آنذاك- توتير الساحة للإيقاع بيننا.
إن ما ذكرته أخي الحبيب أبا الوليد رغم أنه كان “جملة عارضة” وليس في أصل السياق وخصوصية الموضوع، إلا أنه سوف يُحرِّك البعض ويستدعي الرد بكلِّ ما يعنيه ذلك من نكأ للجراح بكلامٍ قد يُعيد خلط الأوراق وتخريب ما أقمناه من “علاقة تفاهم” تتنامى يوماً بعد يوم، ونأمل من ورائها طي صفحات تلك الأحداث المأساوية البغيضة والذكريات الحزينة المريرة، التي أوجعتنا كشعبٍ، وأخرجت حالتنا السياسية إلى مشهد هزلي (حكومتان لشعب بلا وطن)!! مما أفقدنا كفلسطينيين الكثير من التعاطف الشعبي؛ محلياً وعربياً وإسلامياً.
يا أبا الوليد.. أيها القائد الحكيم والأخ الحبيب، تمنياتنا عليك أن لا تقع فيما كنت تُحذِّر منه من خطر “الفتنة الداخلية”، فنحن ما زلنا نتطلع للخروج من ذلك النفق المظلم وتجاوز متاهاته إلى فضاء أرحب يمكننا من خلال إضاءاته أن نجتاز ما وقع بيننا من احتراب قبل عقد ونصف العقد من السنين.
أنا أخاطبك -أيها الأخ الكبير- بما عهدناه فيك من وطنية صادقة ونباهة سياسية وخُلق كريم، وما خبرناه فيك من حرص دائم على تجاوز عثرات الماضي وسقطات أخطائه، فالقائد هو شخصٌ صقلته التجارب وجددته الأيام ولم يبقَ على حالٍ سبق..
وأنت -حاشاك- إلا أن تكون رُبَّان السفينة التي خضت بنا على متنها عباب البحر، وكانت حماس معك تُخاطبُ بقوةٍ كلَّ من حاول استهدافها بالقول: تجري الرياح كما تجري سفينتنا، نحن الرياح ونحن البحر والسـفـن.
أخي أبا الوليد.. يمكنك أن تحتفظ بحقك في الخلاف مع دحلان والرئيس أبو مازن ومن تشاء من خصوم السياسة وشركاء الوطن، ولكن في سياق هذا اللقاء على برنامج الجزيرة حيث أمتعتنا بسرديتك التاريخية المؤثرة بكل ما فيها من وجع وألم وإطلالات أمل، كنَّا نرجو لو أنك ابتعدت قليلاً عما أوردته من “جملة عابرة” عن خلافات الأمس، لتظل مُشرقاً بسيرتك التي رويتها، والتي أحبها الجميع، بمن فيهم الكثير من قيادات وكوادر حركة فتح.
نعم؛ لقد لحِنت قليلاً في تلك الجُزئية الخاصة بدحلان، وقد ذهب البعض بعيداً في قراءة النوايا وتفسير الدوافع.
يا أبا الوليد.. كنت دائماً وما زلتَ صاحبَ ذوقٍ رفيع في تخيُّر مفردات السياسة، ودائما نقول “عدَّاك العيب”، فأنت أستاذُ أدبٍ في لغة الخطابة والبيان.
أتذكر حديثاً جرى بيني وبين دحلان منذ بضعة سنين حول عدوانية خطابه الإعلامي، وتعمده توجيه الاتهام للإخوان وأردوغان (عمَّال على بطَّال) وبأسلوب واضح فيه التحامل، ولا يخدم السياق الوطني الذي يتحرك من أجله، إذ يُفهم وكأنه يجئ إرضاءً لجهة هنا أو هناك. لقد لمست تفهماً من الرجل لِما ذكرت، وشعرت من متابعتي لأحاديثه الإعلامية ولغته السياسية أنه كمن وفىَّ بعهده، وأصبح يُركِّز على الشأن الفلسطيني، وشرع بالابتعاد عما كنَّا نعتبره سقطات يتوجب تجنبها.
الرجل اليوم بيننا وبينه اتصالات، وهناك تعاون مع تيار فتح الإصلاحي الذي يقوده فيما يخص وضعنا الداخلي المأزوم في قطاع غزة، إذ يحاول أن يمدَّ يدَ العون والمساعدة عبر العديد من المشاريع الحيوية في قطاعات الصحة والتعليم والعمل الإغاثي، إضافة للأنشطة والفعاليات الشبابية، فهل من الحكمة -يا أبا الوليد- ما ذكرت، وهل تظنُّ أنَّ مثل هذا الكلام لا يدعو لاستفزاز أتباعه -وهم كُثر- ويرون فيه قائداً وطنياً لهم؟
نعم؛ دحلان كان وربما سيبقى خصماً سياسياً لبعض الوقت، ولكنَّ السياسة كما نعلمها متقلبة وتتغير فيها المواقف، وقد تعلمنا أن نُحبَّ أو نكره “هوناً ما”.
وعليه؛ أيها الأخ الكبير والزعيم الوطني، اسمح لي بالقول إن ما ذكرته يمكن اعتباره زلَّة سياسية (Politicly Incorrect)، ونأمل ألا تُفسد تلك الزلَّةُ ما بيننا وإخواننا في التيار الإصلاحي لحركة فتح من أجواء الود والتفاهم خدمة لشعبنا الذي هو بحاجةٍ مادية ومعنوية ماسة لنا جميعاً.
إن دحلان – أخي أبا الوليد- ومنذ لقائه بالأخ يحيى السنوَّار (أبو إبراهيم) منذ أكثر من خمس سنوات لم يذكر حركة حماس إلا بما يليق بمكانتها واحترامها في المشهد الوطني، وهذا يُحسب له، وعلينا أن نُحسن الظن به فهو اليوم لا يمثل نفسه بل التيار الذي يقوده، وتجمعنا به الكثير من الصداقات، ونحن اليوم نتحدث بقوة عن التحالفات وعن الشراكة السياسية والتوافق الوطني.
إنَّ القائد المُحنك مثلك يا أبا الوليد، والذي يُجيد التحرك وسط الأنواء والأجواء المُكفهرة، بإمكانه تخطي مثل هذه الزلَّات، إذ كان يكفيك أن تقول: كان أحدهم؛ أي على وزن “ما بال أقوام”، حفاظاً على السلم الأهلي ومستقبل “هوناً ما”.. خاصة وأنت قد جاملت كلَّ من ذكرت من القادة والزعماء في المقابلة.
ولعلي هنا أُذكِّرك بتلك المقابلة التي تحدث فيها اللواء توفيق الطيراوي على تلفزيون فلسطين، وأشار فيها مُحرضاً على حركة حماس في الضفة الغربية، متهماً إياها بالتخطيط لانقلاب ناعم، وما شاهدناه بعد عدة أيام من محاولةٍ لاغتيال د. ناصر الشاعر؛ القيادي في الحركة، وقد تمَّ حينها توجيه الكثير من أصابع الاتهام للطيراوي وتصريحاته، وأنه يحاول خلق فتنة، لن يخرج منها رابحاً إلا الاحتلال.
أخي أبا الوليد.. كان لقاءُ الجزيرة ممتعاً وفيه تجليِّة للكثير من جوانب الخير والإنسانية والوعي والطيبة في شخصيتك، وهو إضافة تستحق المشاهدة كجزءٍ من التغريبة الفلسطينية.