في لقائه المسجل، مع قناة “الجزيرة” قدم خالد مشعل مقتطفات من سيرة حياةٍ لم يجد لها أفضل ولا أكثر قرابة لمفهوم النضال الوطني على الأرض؛ من الحديث عن العائلة وعن الوالد “المجاهد” عليه رحمة الله وهذا حقه.
كان جُل حديث الرجل عن “الجهاد” معطوفاً على تجربته في “الإخوان” على المستويين التنظيمي والنظري. وبالطبع استخدم اللغة نفسها المعتمدة في السرد الإخواني قديماً وحديثاً، لكنه ـ من موقعه ـ أراد أن يتكئ على حركة “حماس” كفصيل موجود على الأرض، كان في مرحلة ما بعد انهيار “أوسلو” في صدارة العمل المقاوم، ومعه كافة الفصائل المسلحة.
غَلَبَ على الخط العام لحديث مشعل؛ الخلط بين مشروع “الإخوان” ووظيفة “حماس” كفصيل فلسطيني حصراً ضمن حركة التحرر، لقي ترحيباً شعبياً عند ظهوره، وانضوى تحت رايته قطاع كبير من شبابنا. وكان مشعل حريصاً على تعيين الفارق من الوجهة التنظيمية بين “الجماعة” والفصيل، دون نفي مرجعية الأولى للثاني، ومن وجهة نظرنا كان الرجل، يعبر عن منهجية فريق من “الإخوان” في الخارج، وهم كالعادة، متعددو الأجنحة، فكرياً وتنظيمياً.
تقديرنا أن خالد مشعل كان في غنى عن الإشارة إلى أسباب الانقسام وخلفياته، لأن ما قاله سيفتح الصفحة المطلوب وطنياً أن تُطوى إلى الأبد. ففي حال فتحها، ستكون هناك ثلاث حقائق ليست لصالح خالد مشعل، وهو لن يستطيع إنكارها: الأولى أن الانقضاض العسكري على السلطة، كان في مرحلة ترؤسه المكتب السياسي لحركة حماس، والثانية أن الانقضاض جاء بعد مراكمة عناصر الفتنة التي بدأت منذ أن بادر “إخوان” الخارج، إلى تأسيس الجهاز الخاص الذي لم ترض عنه قيادة حماس في غزة وتحسست خطورته.
وقد باشر ذلك التنظيم عمليات اغتيال، وعند انكشافه أوقع تغييراً سلبياً في علاقة بعض الأجهزة الأمنية مع حماس. والحقيقة الثالثة أن كل المقاتلين وقادتهم سجلوا مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، على أرض المعركة، وحدة عمل يومي، تخللتها معايشات اجتماعية وصداقات وعلاقات قائمة على الثقة المتبادلة. فقد بدأ الاحتراب بوحي من الفريق الذي نعنيه من “إخوان الخارج”. فهؤلاء أرادوا احراز رقعة من الجغرافيا السياسية في الإقليم، بالسيطرة على غزة، على أمل أن يتم البناء عليها في الجوار. ولم يكن هذا هو ديدن المقاومين الفلسطينيين، ومن بينهم مقاتلو حماس في غزة. ومنذ ذلك التاريخ ما تزال غزة محاصرة، وما يزال فتح منفذها له صفة استثنائية تحت العنوان الإنساني.
سعى “إخوان” الخارج إلى تخريب العلاقة الفلسطينية ـ الفلسطينية، لصالح مشروع إقليمي موهوم. وأثناء سعيهم كان الشهيد الزعيم ياسر عرفات والأمن الفلسطيني وحركة فتح، يواجهون الضغوط الأمريكية والاتهامات بعدم الجدية في كبح جماح حماس، ولم يكن حبس أعضاء حماس حقيقياً لذا تحدث المحتلون والأمريكيون عن “الباب الدوار” وكان اتهام السلطة بحكاية الباب الدوار صحيحاً، قبل أن يتطوع “إخوان” الإقليم، تقديم رأس الوئام الفلسطيني في غزة لمشروعهم العام، بزرع بذور الفتنة. غاية القول إن “إخوان” الخارج، هم الذين أججوا الخصومة بين حماس وفتح والأجهزة الأمنية التي قادت الانتفاضة المسلحة عسكرياً وتعرضت جميع مقراتها للقصف. فقد قطع المحتلون المسافة بين حدود قطاع غزة الشرقية والبحر، لكي يقتحموا ويدمروا مقر الأمن الوقائي، على مرأى من الناس جميعا، وقالوا على مسمع من العالم أنهم دمروا ورشة لتصنيع السلاح لمصلحة كل المقاتلين، في قبو المقر العام للجهاز!
خالد مشعل استخدم الأسلوب “الإخواني” نفسه، وهو بدء سرد أي حكاية من النقطة التي يريده الراوي، لكي يفهم المتلقي أن الحكاية بدأت بمظلومية تعرض لها “أحباب الله الأطهار”. وهذا من بين أساليب التضليل الكثيرة التي مرت في التاريخ. فلم يكن ـ مثلاً ـ جهاز أمن الدولة في مصر الملكية، هو البادئ بالعنف، عندما أقدم على اغتيال الشيخ حسن البنا في فبراير 1949. فقبل ذلك بـ 42 يوماً قُتل برصاص “الإخوان” رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي (وكان القتيل هو ثاني رئيس وزراء تقتله الجماعة بعد أحمد ماهر في فبراير 1945 والقتيلان من قادة ثورة 1919) وبالطبع لم يكن ضباط ثورة 23 يوليو 1952 هم البادئين في الصراع مع الإخوان. بالعكس كان من أولى واجباتهم بعد نجاحهم، الذهاب إلى قبر الشيخ حسن البنا للترحم عليه. والحقيقة أنهم جلابو مصائب لأنفسهم ولأوطانهم، ويراهنون على فرضيات سرعان ما يثبت بطلانها بشكل كاريكاتيري، مثلما بدا واضحاً من خلال الرهان التركي.
لا يتسع المجال هنا، للخوض في التفاصيل، لكننا حين نأتي باختصار إلى محطات من التاريخ كله، منذ أن عرفت الجماعة أسلوب “الأجهزة الخاصة” والاغتيالات، سواء في عهد عبد الرحمن السندي أو صلاح أبو شادي أو غيره، نقول إن الجهاز الخاص كان سبب كل شرخ في الجماعة التي تزعم أنها دعوية. فهذا الأسلوب هو الذي جعل الفقهاء يغادرون الجماعة، ولم يتبق فيها فقيه واحد.
من نقطة يريدها هو، حاول خالد مشعل جعل النائب محمد دحلان صاحب مشروع لاقتلاع حماس، ويَعَد الأخرين بالإجهاز عليها، على ما حظيت به من الدور والمكانة. ومرجعية مشعل في ذلك مجلة أوروبية وليس وقائع الحياة على أرض الحدث، وما تخللها من صداقات بين النائب دحلان وقادة حماس الشهداء والأحياء. فلم يطرأ على ذهن الرجل أن المجلة التي اختارها مرجعاً، لديها الكثير مما نشرته واتهمت فيه “حماس” بأنها حركة إرهابية، ومن العيب أن يتطوع آخرون لجعل مثل تلك التشنيعات مواد خبرية ومرجعاً.
مُشكل مشعل أن تعامله مع السرد التاريخي فيه معضلتان: الأولى أنه تعامل خارجي بعيداً عن المعمعة والخطر اليومي بدون أن تتغبر الأقدام بتراب الأرض، والثانية أن الرجل منذور لمشرع “إخواني” لا علاقة لفلسطين بأوضاعه ولا بمآلاته.
لقد وقع مشعل في غواية الشاشة، وهو يعرف أنه لن يطاول قامة مجاهد صنديد، ولا نصيب له من ملامح حياة أي زعيم وطني تاريخي من نيلسون مانديلا إلى ياسر عرفات.