قال الصحافي البريطاني جوناثان كوك إن آخر مرشحين لزعامة حزب المحافظين تسابقا في دعم الغارات الإسرائيلية الأخيرة على غزة. وجاء في مقاله الذي نشره موقع “ميدل إيست آي” في لندن أن ليز تراس، وزيرة الخارجية الحالية والمتنافسة مع وزير الخزانة السابق ريشي سوناك على زعامة حزب المحافظين زادا على بعضهما البعض حول من يدعم إسرائيل أكثر.
وفي الوقت الذي أطلقت إسرائيل العنان لغاراتها على غزة يوم الجمعة، بعث المرشحان الأخيران لخلافة جونسون رسائل تعهدا فيها بالولاء لإسرائيل. وأكد توقيت الرسالتين لجماعة ضغط موالية لإسرائيل عن تعهد الساسة البريطانيين في الحكم والمعارضة بجعل إسرائيل موضوعا مهما في الحملات الانتخابية للتنافس على المنصب الأبرز في الحكومة، وانضموا بهذه الطريقة إلى زملائهم الأمريكيين. وحاول سوناك وتراس التأكيد على سجلهما في دعم إسرائيل التي قتلت 45 فلسطينيا في ثلاثة أيام من القصف على غزة، ومن بينهم 16 طفلا، إلى جانب جرح المئات. وقالت إسرائيل إن عددا من قادة حركة الجهاد كانوا من بين القتلى، حيث تم إعلان وقف إطلاق النار في ليلة الأحد.
وكما هو متوقع خرج قادة الغرب للتعبير عن دعمهم القوي لإسرائيل، مع أنها في هذه المناسبة لم تتظاهر بأنها “تنتقم” ضد صواريخ انطلقت من غزة. فقد كانت إسرائيل البادئة بالهجوم وزعمت أن الغارات كانت لمنع هجوم من حركة المقاومة الفلسطينية، الجهاد الإسلامي. ويمكن للواحد تخيل رد فعل الساسة في الولايات المتحدة وأوروبا لو بررت جماعة فلسطينية هجوما ضد إسرائيل لمنع هجوم إسرائيلي في المستقبل. وعلى أية حال، وكما هو متوقع، ترك الهجوم آثاره العكسية، حيث ردت حركة الجهاد الإسلامي بإطلاق مئات من الصواريخ ضد إسرائيل.
وفي الحقيقة، وهذا ما لم يتطرق إليه لا الإعلام الدولي أو الساسة الغربيون، فالفلسطينيون، وخلافا لإسرائيل، لهم حق بناء على القانون الدولي لمقاومة الجيش الإسرائيلي، وليس لأن إسرائيل كانت وما زالت دولة محاربة ومحتلة لأراضيهم منذ عقود. بالإضافة إلى هذا عرضت إسرائيل قطاع غزة لحصار مستمر منذ 15 عاما، وتسيطر على كل شيء يدخل أو يخرج منه، وهو منطقة مزدحمة تقع على شاطئ البحر المتوسط. وترك القطاع مدمرا، نظرا للهجمات المستمرة على مدى أكثر من عقد، وهي التي تسميها المؤسسة الإسرائيلية عمليات “قص العشب”، فهو بدون كهرباء كافية وتنتشر فيه حالات فقر التغذية بين الأطفال والفقر. ولاحظ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غويتريش في العام الماضي “لو كانت هناك جهنم على الأرض، فهي حياة أطفال غزة”. وجهنم صنعها البشر وتحديدا إسرائيل.
وقال الكاتب إن أكثر التعليقات نفاقا ظهرت نهاية الأسبوع الماضي وجاءت من السفير الأوكراني في إسرائيل يفغين كورنشوك، فقد كتب تغريدة دعم فيها إسرائيل وقلب فيها الواقع رأسا على عقب. وعبر عن “تعاطفه العميق” مع الرأي العام الإسرائيلي، مقترحا أن إسرائيل مثل أوكرانيا تواجه “عدوانا وحشيا من جارتها”. وأضاف أن “الهجوم على النساء والأطفال مستهجن”، مع أن إسرائيل هي التي بدأت الهجوم والأطفال والنساء الذين قتلوا كانوا من غزة وماتوا تحت أنقاض القنابل الإسرائيلية. وتقدم تعليقات سفير أوكرانيا كورنشوك النفاق الأوسع للساسة الغربيين، الذين عبروا عن غضبهم من الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير، إلا أنهم ظلوا ولسنوات يقللون من أهمية عدوان إسرائيل ضد غزة أو يدعمونه.
وبدت المعايير المزدوجة واضحة من المرشحين لخلافة جونسون. وقدمت تراس وسوناك وعلى مدى الأسبوع الماضي الدعم الذي لا يتزعزع لإسرائيل التي كانت تقتل المدنيين في غزة. وفعلا هذا أمام جماعة اللوبي المؤيدة لإسرائيل في حزبهما “أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين”. وأكدت تراس: “يجب أن تقف بريطانيا إلى جانب إسرائيل الآن وفي المستقبل. وكرئيسة للوزراء فسأكون في مقدمة هذه المهمة”، وتعليقات تراس المفضلة في الاستطلاعات للفوز في السباق، من الصعب تقبلها.
فكوزيرة للخارجية، كانت صريحة في شجبها الغزو الروسي لأوكرانيا ووصفته بـ “الاحتلال غير الشرعي”، ودعمت البريطانيين الذين تطوعوا للقتال في أوكرانيا، ودعت بصراحة لإرسال الأسلحة للأوكرانيين كي يدافعوا عن أنفسهم. واقترحت تحويل أموال الأثرياء الروس التي جمدتها بريطانيا إلى أوكرانيا. وبالطبع فلن تعمم تراس أيا من المواقف المبدئية التي شجبت فيها العدوان الروسي، على الفلسطينيين الذين يواجهون العدوان الإسرائيلي. ومن غير المعقول أنها ستدعم إرسال الأسلحة للفلسطينيين كي يدافعوا عن أنفسهم ضد الهجوم الإسرائيلي.
بل على العكس، زادت حكومة تراس مبيعات السلاح إلى إسرائيل لمستويات عليا، حتى مع خنق غزة وسرقة المستوطنين المزيد من أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية. وسيكون خارج المعقول موافقة تراس على تجميد أموال إسرائيليين في بريطانيا واستخدامها لإعادة إعمار غزة. أو أنها ستدعم متطوعين بريطانيين لمساعدة الفلسطينيين على مقاومة الحصار الخانق والطويل. ومرة أخرى فما اعتبر أمرا مقدسا بالنسبة لأوكرانيا حرم على الفلسطينيين، مع أن جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين تعود إلى عقود، وليس لأشهر.
والمشكلة أن تراس وسوناك فشلا بالالتزام بنفس المبادئ القانونية والأخلاقية التي يعتنقانها وبشدة في حالة أوكرانيا. فرسالة كل منهما لأصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين تجرد الفلسطينيين من أي حق، وليس فقط حق مقاومة اضطهاد إسرائيل. ويعد المرشحان بمكافأة إسرائيل مهما قمعت الفلسطينيين وخرقت القانون الدولي. وذكر كوك بأن عدة تقارير لمنظمات حقوقية وصفت إسرائيل بأنها دولة تمييز عنصري في معاملتها للفلسطينيين تحت الاحتلال والأقلية الفلسطينية في إسرائيل “الديمقراطية”.
وتم سحب كل هذا تحت البساط حيث لم يتجرأ أي من وزراء المحافظين لإغضاب “أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين”.
وكشف موقع المجموعة في عام 2014 أن نسبة ربع- خمس نواب حزب المحافظين هم أعضاء فيها. وفي موقعها الحالي، تذكر أنها قامت ومنذ انتخابات عام 2015 بتنظيم رحلات لـ 180 نائبا حيث أكلوا وشربوا مع قادة إسرائيل. وقبل عقد، وصف تحقيق للقناة الرابعة “أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين” بأنها “تعتبر حتى الآن أقوى جماعة ضغط مؤيدة لإسرائيل”، وتبرع أعضاؤها بـ12 مليون دولار للحزب في الفترة ما بين 2001- 2009، وهو ما يفسر كتابة تراس رسالتها وقالت فيها: “أعضاء أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين هم من أهم الداعمين المتحمسين والملتزمين. ولا شك لدي بأن قوة دعم حزب المحافظين لدولة إسرائيل نابع من الدور المهم الذي تلعبونه”. وهذا يبدو وكأنه اعتراف من حزب المحافظين أن الدعم غير المشروط لإسرائيل نابع من النفوذ المالي للمتبرعين الداعمين لإسرائيل. وذكرت لاحقا أن “هذا العمل الصحيح”. ونظرا للاستهداف الذي يواجه كلا من سوناك وتراس من أصدقاء إسرائيل فسيشجعان على التنافس فيما بينهما لإظهار أيهما أكثر ولاء لإسرائيل.
وإذا كان هذا هو الوضع، فماذا سيقدم كل منهما؟
نظرا للاستهداف الذي يواجه كلا من سوناك وتراس من أصدقاء إسرائيل فسيشجعان على التنافس فيما بينهما لإظهار أيهما أكثر ولاء لإسرائيل
فقد ألمحت تراس أنها ستتبع مثال الرئيس السابق دونالد ترامب وتنقل السفارة البريطانية إلى القدس في تحد للقانون الدولي. وقالت تراس إنها تقوم بمحادثات حول المكان المناسب لنقل السفارة البريطانية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد الذي صادق على الهجوم الأخير ضد غزة ودعم قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية في عام 2018. وبالنسبة لترامب فقراره كان محاولة لزيادة الدعم بين الإنجيليين الأمريكيين الذين يعملون على زيادة الدعم لإسرائيل لتحقيق نبوءة نهاية الزمن والتي سيصعد حسبها المسيحيون فقط مع الرب. ويبدو أن تراس مستعدة لتقليد مثال ترامب. ففي رسالتها وعدت وزيرة الخارجية “بتقوية” علاقات بريطانيا مع إسرائيل من خلال تسريع اتفاقية التجارة الحرة التي أعدت مسودتها الحكومة، مشيرة إلى أن “التجارة الوثيقة” هي أولوية.
وحذرت منظمات حقوق الإنسان مثل أمنستي إنترناشونال بريطانيا من عدم التعجل للتفاوض على اتفاق كهذا لأنه قد يحفز نظام الفصل العنصري ويساعد على توسيع الاستيطان غير الشرعي ويعطي موافقة على جهود إسرائيل لضم الأراضي الفلسطينية المحتلة. وتعهدت تراس بملاحقة حركة المقاطعة الدولية ودعم قانون يشبه القانون الأمريكي ومنع المؤسسات العامة مثل المجالس المحلية الانضمام لحركة المقاطعة. وقالت إن حركة المقاطعة تؤدي إلى “انقسام لا ضرورة له”، وتعني هنا بالانقسام المخاوف من إغضاب جماعات الضغط الإسرائيلية القوية في بريطانيا وليس خلق التوتر مع الفلسطينيين وداعميهم ومنظمات حقوق الإنسان.
وفي ظل تقاعس الحكومات الغربية، فالتضامن مع حركة المقاطعة هو الوسيلة الوحيدة والسلمية التي يعاقب فيها الأفراد والمنظمات إسرائيل على اضطهادها الفلسطينيين وسرقتها واستعمارها لأراضيهم. ومن خلال تجريم المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، فستترك تراس الفلسطينيين وأنصارهم أمام خيارات قاسية إما دعم أشكال المقاومة العنيفة أو الجلوس متفرجين على إسرائيل وهي تلحق الموت بآلاف الفلسطينيين وتقضي على حلم الدولة وآمال السلام. وتراس واضحة بأنها لن تتهاون في وصف أي جهود لمحاسبة إسرائيل بأنها “معاداة للسامية”، وهي تريد إسكات النقد لإسرائيل في الأمم المتحدة بسبب سجلها في حقوق الإنسان، وهو واحد من المنابر الدولية التي تواجه فيه إسرائيل التمحيص. ووعدت باتخاذ موقف متشدد من إيران، المعادل الوحيد لهيمنة إسرائيل العسكرية في الشرق الأوسط.
ولم يكن سوناك أقل إسرافا في دفاعه عن إسرائيل، كما أنه أثنى على اتفاقية التجارة الحرة ودعا إلى تعاون أمني واسع مع إسرائيل ضد إيران ووعد بتجريم حركة المقاطعة لإسرائيل، وصور اتفاقيات إبراهيم وبطريقة خاطئة على أنها “عهد جديد للسلام” مع أنها صممت لعزل الفلسطينيين.
وأيا كان الفائز في معركة الخلافة لجونسون فقد تعهد كل المرشحين بدعم إسرائيل ضد الفلسطينيين وقمع المعارضة في الداخل. ولم يقدم زعيم العمال، كير ستارمر أي خطوات تصحيحية لدعم المحافظين المتواصل لإسرائيل. فقد واجه سلفه، جيرمي كوربن، الداعم الطويل لتحقيق العدالة للفلسطينيين حملة طويلة على مدى السنوات وبدون أية أدلة صورته بأنه يقود حزبا تستشري فيه معاداة السامية. وتعلم ستارمر الدرس، ففي أثناء حملته لزعامة الحزب أعلن عن نفسه بأنه “صهيوني”، مؤمنا بأيديولوجية تدعو لاغتصاب أراضي الفلسطينيين واستعمارها. ومنذ ذلك الوقت تجاهل التصويت في داخل حزبه لاعتبار إسرائيل دولة فصل عنصري. وطمس الحدود التي فرقت طويلا بين المشاعر المعادية للصهيونية واضطهاد إسرائيل للفلسطينيين من جهة، ومعاداة السامية وهي التعصب ضد اليهود من جهة ثانية. ومثل سوناك وتراس، دعم ستارمر وبشكل مطلق مساعدة الأوكرانيين لمقاومة العدوان الروسي وحرم هذا على الفلسطينيين. والحقيقة هي أنه لا يوجد أي حزب بريطاني مستعد لبناء سياسة خارجية تستند على الأخلاق والإنسانية مهما زعموا.
ودعمهم السريع لإسرائيل نابع من ديناميات القوة العالمية. فمصالح الاستعمار الغربي الجديد هي التي تحدد الأجندة في الدول الغنية بالنفط، المنطقة التي تتنافس عليها القوى العظمى للسيطرة على صناعة الوقود الأحفوري وبالنسبة لصناع الأسلحة تمثل فرصة مالية وبرهانات عالية. وبهذه المثابة تعمل الحكومة البريطانية على خدمة المصالح الضيقة والنخبة وليس الخير العام والعظيم، ولهذا السبب تعرف إسرائيل أن يدها حرة في دك غزة في أي وقت تختار بدون تداعيات، عكس الفلسطينيين الذين يتعرضون للقصف.