منذ عام 2002 وعمال قطاع غزة ينتظرون على “شوقٍ وعطش” عودتهم للعمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948، علَّهم يلتقطون أنفاسهم من أثر الحصار الإسرائيلي المتواصل على القطاع منذ نحو 15 عامًا، الذي فتك بأعمالهم ومشاريعهم وتركهم لقمةً سائغةً ينهشها الفقر والعَوز.
وبعدما بدأ الاحتلال في السماح لعمال قطاع غزة بالعمل في الداخل المحتل وجدوا أنفسهم فريسةً لمن ينهش قوت أبنائهم وعائلاتهم المتضورة جوعًا وفقرًا ويُرهن إصدار التصاريح لهم مقابل رشًى لا يطيقونها.
ويُقدَّر عدد العاطلين عن العمل في قطاع غزة بنحو 270 ألف عامل متعطِّل عن العمل، في حين يعتمد أكثر من 80% من أهالي القطاع على المساعدات الإنسانية، وفقًا للأمم المتحدة.
وبحسب الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، فقد عاد بعض فئات عمال القطاع للعمل في الداخل المحتل بدءًا من أواخر العام الماضي، وقد سجل أكثر من 100 ألف عامل على الرابط الذي أتاحته وزارة العمل بغزة للحصول على تصريح عمل.
الشاب محمد منصور (34 عامًا) كان أحد العاطلين المتلهفين للبحث عن عمل، وقدّم أوراقه لهيئة الشؤون المدنية بغزة للحصول على تصريح عمل في الداخل المحتل، إلا أنه انتظر نحو ستة أشهر دون حصوله على موافقة أو حتى ردٍّ بالسلب أو الإيجاب، ليخبره أحد أقربائه بضرورة “الدفع” من أجل استصدار تصريحه.
وهيئة الشؤون المدنية تتبع السلطة برام الله مباشرة، وهي الجهة الرئيسة التي تتعامل مع إصدار تصاريح العمل بالتنسيق مع الاحتلال في مقرها بغزة.
ذهب منصور برفقة قريبه، كما كشف لصحيفة “فلسطين”، إلى أحد موظفي هيئة الشؤون المدنية القاطنين في مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، ودفع له مبلغًا قيمته 3000 شيقل (قرابة 880 دولارًا) مقابل تسهيل إدخال تصريحه لنظام الهيئة الإلكتروني لتسريع إرساله للاحتلال واستصدار التصريح.
جريمةٌ واتِّجار
وتوصل مُعدُّ التحقيق إلى أنّ منصور كان واحدًا من العمال الذين أُجبروا على دفع “رشًى” لموظفين في هيئة الشؤون المدنية مقابل تسريع استصدار تصاريح عملهم في الداخل المحتل. ويُعدُّ حصول موظفين في هيئة الشؤون المدنية على أموال من مواطنين مقابل تسهيل إصدار تصاريح عمل لهم جريمةً وِفق القانون، إذ تُعرَّف جريمة الرشوة بأنها “كل موظف عمومي طلب لنفسه أو لغيره أو قَبِل أو أخذ وعدًا أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته، وبذلك يُعدُّ مرتشيًا.
ويعاقب أمر رقم -272 بشأن الرشوة، وفق القانون المصري المطبّق في أراضي السلطة، بالأشغال الشاقة المؤبدة وغرامة لا تقل عن ألف جنيه (قرابة 53 دولارًا) ولا تزيد على ما أُعطي أو وُعد به.
إفادات موثقة
وبالعودة للمواطن منصور، يقول: “سلَّمتُ المبلغ المالي بعد استدانته من أقاربي باليد لموظف هيئة الشؤون المدنية في منزله، وبالفعل؛ بعد أسبوع راجعت الرابط الإلكتروني للهيئة ووجدت قيْد اسمي قد تحول إلى (أُرسل وينتظر الرد)”.
وبعد ثلاثة أشهر من دفع الرشوة، أصدر الاحتلال موافقةً على طلب منصور ليستلم تصريحه من هيئة الشؤون المدنية بغزة بصلاحية تصل إلى 6 أشهر. وإلى جانب منصور، تعرض أحمد عودة لابتزاز مشابه من أحد موظفي هيئة الشؤون المدنية مقابل تسهيل معاملته.
يقول عودة لـ”فلسطين”: “بعد محاولات عديدة للتسجيل للحصول على تصريح عمل وعدم دخول اسمي للنظام، طلب مني أحد موظفي هيئة الشؤون المدنية دفع مبلغ 4000 شيقل (قرابة 1,175 دولارًا) مقابل إدخال بياناتي على النظام الخاص بالهيئة”.
ورفض عودة محاولة ابتزازه من موظف هيئة الشؤون المدنية مقابل تسهيل إصدار تصريح العمل له في الداخل المحتل، ومضى بالإجراءات الطبيعية مرات عديدة ومرهقة وبذل كل الجهود لتحقيق هدفه حرصًا على عدم دفع أيّ مبلغ مالي. وبعد شهور من الانتظار الطويل، أُرسلت بيانات عودة وتلقّى أخيرًا رسالة هاتفية (أُرسل وينتظر الرد) ليحصل بعد ذلك على تصريحه الخاص بالعمل.
وبغضبٍ يؤكد الشاب محمود عاشور (36 عامًا) أنه سلّم بياناته باليد لهيئة الشؤون المدنية بغزة عام 2019 لاستصدار “تصريح تجار” آنذاك، دون حصوله على أيّ ردٍّ سواء بالرفض أو القبول بعد مرور شهور طويلة على ذلك.
ويقول عاشور لـ”فلسطين”: “أخبرني أحد العمال الذين حصلوا على تصريح للعمل أنه عليّ دفع مبلغ مالي حتى يصدُر لي التصريح كما فعل، إذ دفع رشوةً ماليةً لأحد موظفي هيئة الشؤون المدنية وقد حصل على ما يريد”.
ويضيف: “أعرف عمالًا قدّموا أوراقهم للشؤون المدنية في بداية يونيو/ حزيران 2022 وبعد 20 يومًا صدرت لهم تصاريح العمل رغم تقديم مئات المواطنين طلبات قبل فترات طويلة منهم دون الحصول على أيّ موافقة، وهو ما يضع الشكوك حول سرعة إصدار تصاريحهم ومعايير الهيئة في عملها”.
عينة استكشافية
وإلى جانب الإفادات الموثقة للعمال، أعدّ مُعد التحقيق استبانة إلكترونية على عينة استكشافية من مجتمع العمال الذين حصلوا على تصاريح فعالة للعمل شملت 117 عاملًا، وبينت نتائجها أنّ موظفين في هيئة الشؤون المدنية حصلوا على “رشًى” بالفعل مقابل تسهيل إصدار تصاريح العمل.
وأظهرت نتائج الاستبانة أن 29% من المستطلعة آراؤهم طلب موظفون بهيئة الشؤون المدنية منهم أموالًا مقابل تسريع وتسهيل إصدار تصاريح عمل لهم في الداخل المحتل، و70.1% من المستطلعة آراؤهم تعرضوا للمطلب ذاته من سماسرة (وسطاء بأجر). وتوصلت الاستبانة إلى أنّ 45% من المستطلعة آراؤهم يعرفون عمالًا دفعوا أموالًا لتسهيل إصدار تصاريح عمل لهم، و55% لم يعرفوا أحدًا دفع أموالًا.
وأوضحت النتائج أن 84.9% من المستطلعة آراؤهم دفعوا أكثر من 1000 شيقل مقابل إصدار تصريح عمل، و15.1% دفعوا أقل من 1000 شيقل.
رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال في قطاع غزة سامي العمصي أفاد بأنّ الاحتلال وافق على إصدار 14 ألف تصريح لعمال من قطاع غزة منهم 2000 تصريح لتجار، لكنه سمح لـ9000 من العدد الإجمالي، بشكل فعلي، بالذهاب إلى عملهم في الداخل المحتل، مشيرًا إلى سحب تصاريح بذريعة “المنع الأمني”.
وأكد العمصي لـ”فلسطين” تعرض عمال في قطاع غزة للابتزاز المالي مقابل تسهيل إصدار تصاريح للعمل لهم في الداخل المحتل، مُنبّهًا إلى أنّ منهم من اشتكى من إجبارهم على دفع أموال لمحامين (وسطاء بأجر بين العمال والشؤون المدنية) تبدأ قيمتها من 1000 شيقل لتسهيل إصدار تصاريحهم. وبيّن أنّه من حق أيّ عامل تنطبق عليه الشروط التسجيل والحصول على تصريح عمل مجانًا، دون دفع أيّ مبلغ لأيّ جهة.
بدوره، يؤكد المستشار القانوني لمؤسسة الديمقراطية لحقوق العاملين علي جرجاوي أنّ ابتزاز العمال ماليًّا مقابل تسهيل إصدار تصاريح عمل لهم في الداخل المحتل، مرفوض، لأنه سيخلق العديد من الإشكاليات.
ويقول جرجاوي لـ”فلسطين”: لا بد للجهات المختصة محاسبة من يبتزّ العمال ويحصل منهم على أيّ مبالغ دون وجه حقٍّ مقابل إصدار التصاريح، وأن يكون إصدارها من خلال الجهات ذات العلاقة فقط لحماية العمال من هذا الابتزاز.
لجان دون نتائج واجه مُعدُّ التحقيق مدير هيئة الشؤون المدنية إياد نصر وأقرّ بتحويل موظفين كُثر إلى التحقيق بسبب الاشتباه في تلقّيهم رشًى مقابل إصدار تصاريح عمل للمواطنين. وحقّقت الهيئة، وفق نصر، مع موظفين وتمّ تشكيل لجان تحقيق معهم، وأنها تبحث مع كل حالة اشتباه، لكنّ ذلك دون إعلان نتائج لأيّ لجنة. وأمام إجراءات هيئة الشؤون المدنية، وحاجة عشرات آلاف العمال إلى تصاريح للعمل في الداخل المحتل، يواصل موظفون في الهيئة استغلال حاجة العمال رغم أنّ خدمتهم مجانية.