بقلم: حمادة جبر
خلال أقل من ثلاثين عاماً على تأسيسها لتحرير فلسطين في العام 1964، سارعت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة فتح إلى تقزيم برنامجها وأهدافها، التي بدأت بالتحرير والعودة وشعارات مثل “لا صلح؛ لا اعتراف؛ لا تفاوض”، مروراً ببرنامج النقاط العشر عام 1974، ومن ثم القبول بقراري الأمم المتحدة 442 و338 عام 1988، واتفاق أوسلو والاعتراف المتبادل مع إسرائيل عام 1993، وليس انتهاءً بتعديل ميثاقها عام 1996؛ تم إقرار التعديلات في العام 1998.
بعد ذلك؛ أصبحت منظمة التحرير ومؤسساتها مفرغةً من معناها، وتآكلت لصالح مؤسسات السلطة، حتى كادت تصبح دائرة من دوائرها. كذلك أصبحت اجتماعات مجلسيها؛ الوطني والمركزي؛ شكلية، وحتى لجنتها التنفيذية غَلبَ عليها طابع الشللية، من حيث التعيينات القائمة على الولاء، والأجندات والقرارات المحددة مسبقاً من قبل مجموعة صغيرة.
أما الكفاح المسلح؛ الذي تبنته المنظمة وسيلةً لتحرير فلسطين، فلا نبالغ لو قلنا: بأن الرصاص الذي أطلقه مقاتلو المنظمة في أحداث مثل “أيلول الأسود”، والحرب الأهلية اللبنانية، يفوق بأضعاف الرصاص الذي أطلقوه على إسرائيل. قد اضطرت المنظمة وكوادرها إلى التنقل بسبب سلوكها من القاهرة؛ وعمان؛ وبيروت؛ ومن ثم تونس خلال أقل من عشرين عاماً (1964-1982).
قد تكون سابقة في تاريخ حركات التحرر الوطني، أن برنامج وهدف منظمة التحرير الفلسطينية، التي تأسست عام 1964، هو إقامة دولة مستقلة على أرض احتلت بعد ثلاثة أعوام من تأسيسها (1967)، رغم ذلك؛ هي اليوم أبعد من أي وقت مضى عن تحقيق ذلك الهدف.
أما حركة حماس التي تأسست عام 1987، قد تكون أولى إشارات تكرارها لسيناريو المنظمة وفتح هو مشاركتها في انتخابات مجلس السلطة الفلسطينية التشريعي في العام 2006. أما الإشارة الثانية؛ فهي “وثيقة المبادئ والسياسات العامة” التي أعلنتها حركة حماس عام 2017، حيث تشير بوضوح إلى قبولها حل الدولتين عبر قيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967.
لكن هناك اختلافٌ بين مسيرة المنظمة وفتح، ومسيرة حماس، لا بد من ذكره، وهو أن قيادة المنظمة وفتح عملتا من أجل الرجوع إلى فلسطين، خاصة بعد أن أجبرتا على الخروج من دول الطوق، وجفت مواردهما المالية، قبل أن تنقذهما الانتفاضة الأولى من عزلتهما. لكن؛ تبين الآن أن ثمن عودة المنظمة وكوادرها لفلسطين كان كبيراً، وأن إسرائيل وحلفاءها استغلوا ضعف المنظمة، كي يفرضوا عليها مؤتمر مدريد، ومن ثم اتفاق أوسلو.
أما حركة حماس؛ وعلى الرغم من سيطرتها على قطاع غزة منذ العام 2007، بقيَ رئيس مكتبها السياسي (خالد مشعل)، والعديد من قياداتها خارج فلسطين، بل إن رئيس مكتبها السياسي الحالي؛ إسماعيل هنية؛ الذي انتخب عام 2017، وعاش جل حياته في قطاع غزة، أعلن عن جولةٍ إقليميةٍ بعد انتخابه رئيساً للمكتب السياسي، لكنه لم يعُد منذ ذلك الوقت إلى غزة، واستقر منذ ذلك الحين في الدوحة. أيضاً؛ يبدو أن حماس تكرر سيناريو المنظمة وفتح بطبيعة علاقاتها الإقليمية الملتبسة والمتذبذبة، بعد خروجها من سورية؛ مع ما يسمى بمحور المقاومة؛ رفقة دول أخرى مثل قطر وتركيا.
أما الكفاح المسلح بنسخته الحمساوية؛ بعد عملياتها التفجيرية البشرية المثيرة للجدل في تسعينيات القرن الماضي وخلال الانتفاضة الثانية وقبل تطويرها لقوة صاروخية منذ سيطرتها على قطاع غزة. فمنذ عام 2014 لم تحدث مواجهة عسكرية حقيقية مع إسرائيل، باستثناء “معركة سيف القدس” في مايو/أيار 2021، التي بادرت إليها الحركة رداً على “مسيرة الأعلام” الإسرائيلية في القدس، وعلى تهديدات الاحتلال بتهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح. لكن شعار “ما قبل معركة سيف القدس ليس كما بعدها”، الذي أطلقته الحركة وقياداتها، لم يصمد أكثر من عام، فالتهديدات النارية وربما غير المسبوقة التي أطلقتها قيادات الحركة السياسية والعسكرية “مسيرة الأعلام” التي جرت بتاريخ 29/5/2022 كانت مجرد كلام، على الرغم من الاستفزازات الإسرائيلية المبالغ بها، مثل عدد المشاركين، مسار المسيرة، الهتافات المسيئة للفلسطينيين والإسلام، وأهمها اقتحامات الأقصى بأعداد كبيرة مصحوبة بصلوات وطقوس دينية.
ربما يثبت هذا أن دافع حماس الرئيسي في معركة “سيف القدس”؛ ليس الدفاع عن القدس؛ بل رداً على إلغاء الرئيس الانتخابات التشريعية، التي كانت مقررة بتاريخ 22/5/2022، والتي راهنت عليها حماس من أجل الخروج من أزمة الحكم في غزة، والحصول على قبول دولي بها، خاصة بعد رضوخها لكل طلبات حركة فتح، مثل تراجعها عن شروط تزامن الانتخابات التشريعية والرئاسية، والموافقة على نظام التمثيل النسبي الكامل (القوائم)، كما رضخت سابقاً للأمر الواقع بحل المجلس التشريعي، في حين كان عليها رفض تحول حله إلى سابقة قانونية، عبر اشتراط إعادة تفعيله إلى حين إجراء الانتخابات، وفاءً لقاعدتها الشعبية التي انتخبتها في حينه.
اليوم، تقول نسبة من 33% من الفلسطينيين إن حركة حماس هي الأجدر بقيادة الفلسطينيين، متفوقة بذلك على حركة فتح، التي حصلت على نسبة 23% فقط، لكن تقول النسبة الأكبر 38% إن لا أحد جدير بقيادة الفلسطينيين، هنا لا بد من التذكير بأن غالبية الجمهور الفلسطيني يرى في استمرار وجود السلطة الفلسطينية عبئاً عليه وعلى قضيته، كذلك هبط تأييد الفلسطينيين للحل القائم على حل الدولتين إلى أدنى مستوياته منذ أوسلو بنسبة 28% فقط، وفق استطلاع الرأي العام الفلسطيني الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في الضفة الغربية وقطاع غزة في شهر يونيو/ حزيران الماضي.
تعكس الأرقام السابقة فشل مشروع المنظمة بقيادة فتح، التي تراهن على تحقيقه عبر المفاوضات؛ للمفارقة أصبحت إسرائيل غير معنية بها، حتى لو كانت مفاوضات شكلية لإضاعة الوقت. وكذلك تعكس عدم جدية حركة حماس، أو عدم جاهزيتها لقيادة الشعب الفلسطيني وتقديم رؤية تحررية مختلفة، إذ أعلنت قبولها مشروع حل الدولتين، بعدما اكتشف أصحاب المشروع فشله وموته، وبدأوا؛ عبر التلميح أحياناً والتهديد أحياناً أخرى؛ بالبحث عن خيارات بديلة.
بناء عليه؛ وفي ظل انعدام الخيارات أمام الجمهور الفلسطيني، على الأحزاب والحركات الفلسطينية الفاعلة، أو حركات جديدة، إعادة النظر في قراءة وتوصيف الوضع الراهن، كي تكون قادرة على تقديم رؤى وبرامج وأدوات حقيقية بعيداً عن الشعارات. وهذا يتطلب إعادة النظر في ركائز الوضع الراهن، وكيفية التعامل معها.
على الفلسطينيين وقيادات سلطتي الأمر الواقع في الضفة وغزة، الآن ودون تردد أو انتظار أن تقوم بخطوة للوراء لمحاولة إرجاع الأمور إلى ما كانت عليه قبل مؤتمر مدريد للسلام واتفاق أوسلو، لاستنهاض وإطلاق طاقات كل الفلسطينيين بالدفاع عن قضيتهم وحقوقهم وللكشف مجدداً عن وجه اسرائيل العنصري المتستر بأوسلو والسلطة الفلسطينية الناتجة عنه. لقد حان الوقت للاعتماد على أنفسنا فقط في فرض ما نريد ضمن خطة وطنية، والاستثمار في المواقف العربية والدولية ما أمكن، ولكن كعوامل مساعدة وليست أساسية. وذلك من خلال إظهار المزيد من الجدية تجاه قضيتنا وتحررنا، ليس على الطريقة “البراغماتية” الاستسلامية أو العسكرية المدمِرة، بل على طريقة الإيمان بأن إرادة ووحدة الجماهير الملتحمة والتي تثق بقيادتها قادرة على صُنع المعجزات. وذلك بالقيام بالخطوات التالية:
(1) الإعلان عن حل السلطة الفلسطينية لتحميل إسرائيل كلفة احتلالها على الأقل من خلال رفع التكلفة الأمنية. وكذلك الإعلان عن سحب الاعتراف باسرائيل، وانتهاء حل الدولتين وتبني استراتيجية قيام دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين التاريخية. و دعوة أكثر من 2 مليون فلسطيني يحملون الجنسية الاسرائيلية للانضمام لتحقيق الاستراتيجية الجديدة، الذين يتوقون لممثل حقيقي يعبر عن تطلعاتهم وتطلعات ووحدة كل الفلسطينيين، خاصة بعد إقرار قانون القومية الاسرائيلي العنصري، وفشل وتخبط قيادات الأحزاب العربية في إسرائيل. كل هذا بالتوازي مع إعادة الاعتبار لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتذار بشجاعة لعموم الجمهور الفلسطيني عن أخطاء الماضي.
(2) بالتوازي أيضاً مع ما سبق، لتحقيق استراتيجية قيام دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين التاريخية، على القيادة تبني المقاومة الشعبية السلمية المتمثلة أساساً بالمسيرات والاعتصامات الكبرى، والعصيان المدني، والمقاطعة. وإعطاء صلاحيات واسعة للبلديات والمجالس المحلية وتشكيل لجان شعبية في أحياء المدن والقرى لمساندة البلديات والمجالس المحلية في حفظ الأمن الداخلي وقيادة العمل الشعبي المقاوم.
(3) دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعادة تفعيل قرارها رقم 3379 الذي اعتبر الصهيونية (اسرئيل) مساوية للعنصرية حيث أن إسرائيل أصبحت اليوم أكثر عنصرية من وقت إقرار القرار المذكور عام 1975 خاصة بعد إقرارها قانون القومية العنصري عام 2018. وذلك أيضاً بالتوازي مع دعم حركة مقاطعة اسرائيل وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات (BDS).