كتب: عيسى قراقع
في قاعة محمود درويش في رام الله يوم 18-7-2022 لأول مرة ارى ابطال الرواية يجلسون على المقاعد يراقبون ما فعلوه في النص وفي الاحداث المتواترة، اقوالهم وأنفاسهم ، موتهم وحياتهم وأحلامهم ويصابون بالدهشة ، ما بقي منهم على قيد الحياة حررته مليحة من الذكريات والذاكرة ،أطلقتهم من هذا المتحف المتخم بالأيقونات الصامتة ، دبت فيهم روح الحياة وخرجوا من تحت الرصاص ومن الموت الذي لاحقهم لسنوات وسنوات ، خرجوا من بين ظلمات السجون واستعادوا الماضي والحاضر واكتملوا واجتمعوا ليضعوا فصل النهاية .
بعض الحاضرين تفقد جسده وجروحه ونزع الشظايا من قدمه وصدره وتنفس طويلا كأنه يشعر بالعافية ، بعضهم أخذ يبكي بعد أن تذكر رفاقه وزملائه منذ أن عصفت النكبة بعالم الشعب الفلسطيني وتشردوا بالمنافي والمخيمات لتكون مليحة الراوي والرواية والوثيقة والشهادة التي ترد دينا الي الأموات الذين ماتوا والى الاحياء الذين لم يدركهم الموت ،فهي في النهاية تنقل معرفة وطنية الى اجيال قادمة تحتاج الى ذاكرة وخارطة كي لا تضيع في منتصف الطريق.
منذ الصفحة الاولى لرواية مليحة للكاتب والاسير المحرر محمد البيروتي وجدت أنها كتبت تحت وقع ضربات الرصاص ،تسرد قصة وسيرة الشعب الفلسطيني منذ النكبة حتى الان ،الرواية تواصل الحياة وتعطيك الحياة التي يجب أن تعاش كما يقول الكاتب ، أبطال الرواية حقيقيون وكانوا ملحميين شجعان يواجهون الموت والخذلان ،هم بالضبط كما وصفته له جدته مليحة في حكاياتها الشعبية أيام الطفولة .
مليحة عنوان الرواية للكاتب البيروتي ، هي جدته التي اقتلعت مع عائلتها من قريتها صميل التي تقع جنوب الخليل، دمرت القرى والمدن في تلك المأساة عام 1948 ، انقلبت حياة مليحة مرة واحدة، هام المشردون على وجوههم في كل بقاع الدنيا ولم تأخذ مليحة معها سوى المفتاح وكواشيين الطابو والامل بالعودة ، وقد طال الانتظار وحدثت النكسة وتواصلت النكبات.
مليحة هي الارض المنهوبة السبية السليبة وهي المرأة الجميلة التي انتزعت من أولادها ومن ملابسها واحلامها على يد العصابات الصهيونية ، مليحة التي دفنت ابنها محمد في الطريق خلال عمليات القتل والتشريد ، دفنته تحت كومة حجارة في ذلك الجبل وكتبت عليه سأعود مرة ثانية ، وقد حمل الكاتب اسم الشهيد فلم ينج من مسؤولية عبء التحرير وتصويب الاجحاف الذي لحق بذويه وشعبه ووطنه، وكان لا بد له من أن ينجو كما نجا اليسوع ابن مريم العذراء من الملاحقة ، وكان لا بد له أن ينتصر ويكمل الرسالة .
مليحة رواية تسلط الضوء على جيل ما بعد هزيمة عام 1967 ، جيل وجد نفسه وسط الرجولة في وقت مبكر، وسط المعارك والموت الذي أحاط به في كل مكان ، الموت في ازقة مخيم الوحدات وفي جبال جرش وعجلون وغور الاردن وعلى ضفتي نهر الاردن واليرموك ووديان الجولان وجنوب لبنان ، لم تتوقف عجلة الموت حتى بعد ان وجد نفسه بين قضبان السجن الصهيوني مقيدا بأحكام المؤبدات .
لولا مليحة لما صمد الكاتب محمد البيروتي 11 عاما في السجن ، لا تعد الا منتصرا ،صوت ظل راسخا في عقله حتى في اسوأ الظروف المريعة ، ان يكتب البيروتي روايته مليحة من قلب زنزانته في سجن بئر السبع ولا زالت اثار التعذيب الذي تعرض له في سجن صرفند تطفح على جسده ، ان يجد لعقله ومداركه مساحة سرية بعد منتصف الليل في تلك الزنزانة ليطلق ذكرياته وخياله ويجمع البعيدين الاحياء والاموات والشهداء ، الجغرافيا والامكنة ، الشوارع والحارات والناس والاصدقاء، ان يوسع مساحة الزنزانة ويجد له طرقا فضائية غير مرئية ليصل الى قريته صميل والى بيت لحم حيث ولد ، والى حارة العناترة ومغارة الحليب ، والى امه الثانية حنظلية المسيحية ، أن يصل الى مخيم الفوار ومخيم الوحدات ، أن يصل الى سوريا وحوران ودرعا والى امه الثالثة ام جريس ، ان يصل احبائه ورفاقه في المعسكرات ، ويجمعهم في نصوص روايته ، يجتمع بهم دون أن تصده جدران السجن والاسلاك الشائكة والابواب الموصدة، انها شجاعة المعاناة وقوة الذاكرة .
لولا مليحة لما استطاع الكاتب ان يلفظ السجن من داخله ويتسلح بإرادة المعنى وهي اقوى من ارادة الاحتلال ، هي الحرية الروحية والقوة الداخلية للإنسان تعلوا به فوق أي قدرة اخرى في العالم الخارجي ، يقول البيروتي : يختفي الزمن في السجن والرتابة والاحساس بالمكان ، ثم تبدأ الجدران بالتلاشي والروح تحلق في عالم بلا ابعاد ، انها الحرية المطلقة