كتب: هاني عوكل
لم تسلم القارة الأوروبية العجوز من التغير المناخي الذي يهدد طقسها ويزيده حرارة في هذه الأيام، في الوقت الذي تستدعي فيه بعض الدول حالة الطوارئ والاستنفار الشديد على خلفية الحرائق الكثيرة التي تلتهم الغابات وتصل حتى إلى بعض المناطق السكنية كما الحال في بريطانيا.
أكبر متهم في مسألة ارتفاع الحرارة هو التغير المناخي الذي يعود بالأساس على الأفعال البشرية المهددة للبيئة والمناخ، إذ أن استخدام الوقود الأحفوري من فحم ونفط وغاز يمثل أكثر من 75% من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية وما نسبته 90% من كل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على الأرض.
الاحتباس الحراري يأتي من انبعاثات غازات الدفيئة المنتشرة في الغلاف الجوي التي تحبس حرارة الشمس، وهذه الزيادة المطردة في ارتفاع درجات الحرارة على مدار العام تؤدي إلى اضطراب في حالة الطقس واختلال في التوازن البيئي الذي يهدد البشرية يوماً بعد يوم.
القارة الأوروبية تعاني من الاحتباس الحراري حالها حال بقية الدول، لكن ثمة تغيرات مناخية ترفع من حرارتها في الصيف إلى درجات تتجاوز 40 درجة في بريطانيا وأكثر من ذلك في اسبانيا واليونان والبرتغال، والسبب الرئيس هو موجة الهواء الساخن الآتي من أفريقيا والضغط العالي فوق أوروبا الذي يخنقها بهذا الهواء المحترق.
أما لماذا تعاني الدول الأوروبية المتقدمة من موجات الحر هذه، فهذا مرتبط بدرجات الحرارة العالية التي لم تكن تألفها من قبل، حيث لم تشهد دول مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا درجات حرارة تقفز عن 32 درجة مئوية.
وإعلان حالة النفير مع ارتفاع أعداد القتلى والجرحى بالآلاف في القارة الأوروبية يعود إلى عدم جاهزية هذه الدول للتعامل مع موجات الحر الشديدة، إذ أن المنازل مصممة لتقي ساكنيها من برودة الشتاء وليس حرارة الصيف.
الكثير من المنازل في الشمال الأوروبي تحديداً غير مكيفة، وكذلك البنى التحتية الخدماتية ويشمل ذلك أنظمة النقل، ومن الطبيعي أن تستثمر هذه الدول في مشروعات أخرى أكثر من توقع أيام قليلة صعبة لارتفاع الحرارة في فترات الصيف.
لكن كما يقول المثل “زمن أول حوّل”، إذ باتت العديد من الدول الأوروبية مضطرة للتعامل بجدية مع تهديدات المناخ، خصوصاً وأن الطقس الحار أصبح زائرا دوريا غير مرحب به بالنسبة لها، والكثير من الدراسات المناخية والبيئية لفتت إلى أن التغير المناخي واحترار الأرض سيعني كابوسا مقلقا للقارة العجوز كل الوقت.
مع الوقت ستتخلى الدول الأوروبية المكتوية بنار الحرارة مع الخطط الطارئة، وسيشهد التغير المناخي في السنوات القريبة تحدياً كبيراً أمام السياسيين والاقتصاديين كما يحصل الآن، باستثناء أن سرعة التغير المناخي ستجعل القادة يستعجلون اتخاذ الإجراءات للتعامل مع هذه الظاهرة المقلقة.
ثمة فرق بين الحد من الاحتباس الحراري والتعايش معه، وعلى الأغلب أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ميالة أكثر للتعايش مع التغير المناخي، في الوقت الذي لا تنظر فيه بعناية شديدة لمسألة الحد من هذا التغير المخل للمناخ والبيئة.
التعايش مع ارتفاع الحرارة سيعني بالنسبة للأنظمة الأوروبية تأهيل المباني وتصميم منازل متكيفة مع الاحتباس الحراري وتجهيز بنية تحتية تتمتع بالتبريد، وزيادة زراعة الأشجار في المدن وبين المنازل، وإنشاء أنظمة إنذار مبكر للكشف عن موجات الحر المتطرفة.
الأهم من هذا على المدى الطويل هو الحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى ما لا يزيد على 1.5 درجة مئوية، وهذا يتطلب نقلة ثورية في التحول من الاعتماد على الطاقة التقليدية إلى الطاقة النظيفة، يشمل ذلك طبعاً بدائل عن المصانع التي تعتمد الوقود الأحفوري والاعتماد أكثر على المركبات النظيفة على حساب مركبات الوقود السائل.
إذا لم تضع حكومات العالم في الحسبان أهمية التحول نحو الطاقة النظيفة للحد من انبعاثات الكربون وتقليل الهواء الملوث في الفضاء وبالتالي فرملة التغير المناخي، فإن الأخير قد يضغط على الدول حتى تفعل عكس ما تريده.
أوروبا ليست وحدها في مرمى نار التغير المناخي، بل كل دول العالم تعاني من هذا الاضطراب الذي يهدد أمنها الغذائي والبيئي والسياسي والاقتصادي وكذلك يهدد بقوة مستقبلها ومستقبل الأجيال الجديدة، ولا تحتاج الأنظمة السياسية إلى مؤتمرات ورفع الشعارات الملهمة والرنانة التي تُصرف بدون رصيد.
كذلك الدول العربية تعاني من ارتفاع موجات الحر في السنوات الأخيرة، والمشكلة أنها غير مستعدة للاستجابة للكوارث الطبيعية والبيئية والمناخية، إذ تعاني الكثير منها شح الموارد المائية، وثمة تفاوت كبير في موارد الطاقة بين هذه الدول، وبناها التحتية غير قادرة على تحمل ارتفاع درجات الحرارة أو البرودة في الصيف والشتاء.
دول العالم تحتاج إلى الاتفاق الجماعي على أهمية صون البيئة والحفاظ على الطبيعة والتعامل برفق مع أمنا الأرض، حتى لا يأتي يوم تندم فيه البشرية على خلل التوازن الطبيعي الذي قد يحدث في أي وقت ويأخذ معه الأخضر واليابس.