مواقع التواصل الاجتماعي ودورها في تعزيز حرف القِيَم

بقلم: د. غسان عبدالله

مع حالة الانفجار المعلوماتي، وما وفّرته التكنولوجيا من وسائل للتواصل الاجتماعي، ‏بعد العام 2004، وذلك من خلال بيئة تفاعلية افتراضية، تتجاوز كل الحواجز والحدود ، وبناء مجتمعات افتراضية وسانحة بالاطلاع على ثقافات مختلفة، وأحيانا تبني بعض ‏ما يتم الاطلاع عليه من موروث ثقافي، اجتماعي، اقتصادي، سياسي، ورؤى فكرية ‏حيال مجريات الحياة اليومية، من شأن كل هذا  تعزيز أو تقويض بعض القيم لدى ‏الأطفال، مما قد تؤثر، وبشكل جليّ على سلوكياتهم، من خلال اعادة قولبة ‏لمثل هذه التغيرات في الرؤى والقيم. الأمر الذي قد يوجد لاحقا معضلة ذات صلة ‏بالهوية والثقافة القيمية، التي يمكن نعتها بمنظومة قيمية افتراضية تتعارض، في ‏غالبيتها، مع الواقع الاجتماعي الفعلي. وباتالي ستجد في كل بيت من بيوتنا، من تكتوي ‏يداه وقلبه جراء ذلك الحال.‏


‏ بغض النظر عن اختلاف الرؤى حيال ذلك، نرى أن وسائل التواصل الاجتماعي قد ‏زادت من مستوى التفاعل بين فئات عمرية وشرائح اجتماعية مختلفة، عزّزت الشراكة ‏المسؤولة وتبادل الافكار والاراء، وتقبل التعددية والاختلاف في كيفية النظر للأمور ‏وزادت من منسوب التأثير وفرص تجاوز الحدود الجغرافية الوهمية، مما أكدّ على ‏حضور هذه القيم الافتراضية، سواء قبلنا أو رفضنا، والتي منها  قيم التفاعلية ‏والتشاركية المسؤولة وأحيانا غير المسؤولة، من باب الحرص على دوام الحضور ‏الافتراضي، والانفتاح وتقبل الاخر من حيث الفحوى، وزيادة الشعور بالقدرة على ‏التأثير من خلال جذب العديد من المشاركين وتوصيل رسائلهم، ‏سواء كانت معدّة مسبقا أو تجيء على شكل ردات فعل آنية، الشعور بالحاجة الى ‏الانتماء الى مجموعة، حتى لو كان هذا الانتماء افتراضيا، باتت مثل هذه القيم بمثابة ‏الموجّه لسلوك كل من شارك ويشارك بها.‏

لنا أن نؤكد هنا على أن التغيرات الحاصلة جراء الانفجار المعرفي هذا وليد التطور ‏التكنولوجي الهائل، وبالأخص وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة، عديدة المسميات‏، قد تطال جميع القيم الأسرية، كون أفراد الأسرة لا يجتمعون سوية، وان ‏اجتمعوا سرعان ما يتناول كل واحد منهم جهازه ويبدأ باستعمال احدى وسائل التواصل ‏الاجتماعي هذه، مما يقضي على فرص التفاعل والحوار الوجاهي بين أفراد الأسرة، ‏الأمر الذي يعمل على تغييب فرص الارشاد والتوجيه والتقييم، مما يسهّل في ولادة قيم ‏جديدة منها السلبي ومنها ما قد يمكن القبول به، ولم يتبقى من الأسرة سوى الاسم والشكل ‏بعد أن عصفت بها رياح التفكك وعدم الترابط، وهيمن الطابع الرسمي على العلاقات ‏لدرجة أن البعض بات يكتفي بارسال رسالة قصيرة عبر هذه الوسائل، ليس فقط في ‏المناسبات السعيدة، بل وأيضا للاستفسار عن الحالة الصحية لقريب أو صديق، بعد أن ‏كانت الزيارات العائلية وزيارة ذوي القربى والمعارف هي المعيار للانتماء والاخلاص. ‏

ليس الهدف هنا إثارة الخصومة والعداء مع وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام، لاسيما في ظل ما نشهده من صراع مستعر بين التيارات الدينية والثقافية التقليدية منها ‏والحديثة، مما قاد الى زيادة حدة الطائفية المقيتة والعنصرية البشعة وبالتالي الاضطهاد ‏واستبداد الانسان لأخيه الانسان، بوعي أو دون وعي، لا سيما في ظل جائحة كورونا ‏ومما سببّته، ولا زالت تسببّه من ضغوطات نفسية واجهاد متواصل ومتنامٍ ومتنوع ‏الأشكال. ‏

نلحظ أن وسائل التواصل الاجتماعي هذه قد تركت بصماتها الجليّة على نمط الحياة ‏الأسرية، فبعد أن كانت الأسرة هي المنبع الأول في تربية وصقل ثقافة الطفل من خلال ‏سلوكيات الوالدين وارشاداتهم المتواصلة للأبناء، والجلسات العائلية، وتبادل الزيارات ‏مع الأقارب، ولعب الأطفال مع بعضهم البعض، مما يكسبهم فرصا جديدة  لتعلم ‏مهارات وعادات وقيم شتى، اضافة الى تعزيز الطموح لديهم. للأسف بتنا نلحظ ‏أن دور وسائل التواصل الاجتماعي قد حاصرت، بل وحدّت من تأثير الأدوار الهامة  للأسرة التي كانت نواة المجتمع وصانعة النسيج الاجتماعي والثقافي، الفكري والتربوي ‏ودمج أعضائها في المجتمع المحيط كعناصر فاعلة متعاونة، متخطية بذلك وظيفة ‏الحفاظ على الجنس البشري فقط، كونها المؤسسة الأولى التي يجد الطفل ذاته في ‏أحضانها.‏

يصعب علينا هنا عدم الولوج في بحث دور وسائل الاعلام وتأثيرها على الأسرة ‏وبالتالي على الطفل، من ناحية توفير فرص لبلورة رؤى وقيم جديدة للحياة مستفيدة ‏من الأسس النظرية وأساليبها للتسبب في الانهيار القيمي، سواء على صعيد الفرد أو ‏الأسرة وبالتالي المجتمع ككل، لدرجة وجدت فيها الأسرة ذاتها مضطرّة الى التنازل ‏عن قسط كبير من دورها، الأمر الذي سبّب في خلخلة اضافية للعلاقات سواء داخل ‏الأسرة الواحدة أو حتى المجتمع برمته.‏

لم تعد النظرة البريئة، التي كانت سائدة الى دور الاعلام، بكافة أنماطه وانتمائاته، ‏كأداة تحديث وتطوير، لم تعد هذه النظرة تقنع الغالبية العظمى من التربويين الغيورين، لا ‏سيما بعد أن بات واضحا قيام غالبية وسائل الاعلام هذه بدور المستورد والمصدّر ‏للبرامج الغربيّة والتي قد تتناقض مع ما نصبو اليه من قيم وأخلاق.‏

في هذه العجالة، سأشير الى بعض الانعكاسات السلبية على شخصية الطفل جراء ‏الادمان على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ‏ممكن أن يؤدي كثرة استخدامها الى ما يلي:-‏

أن يكره الطفل التواصل بالناس، اذ يفترض أن يستمتع الأطفال بالتفاعل مع الآخرين، ‏بدءًا من والديهم وتمتد تدريجياً إلى الآخرين في عالمهم، بما في ذلك أفراد الأسرة ‏والجيران والأطفال الآخرين، وغيرهم من البالغين الذين يواجهونهم. يمكن رؤية هذا ‏الاستمتاع من خلال ابتساماتهم، الثرثره، التواصل البصري، التحدث واللمس.‏

‏ يستفيد هؤلاء الأطفال من جميع التفاعلات الإيجابية التي يباشرون بها، حيث يستجيب ‏الآخرون لهم بشكل إيجابي ويشاركونهم من خلال الكلمات والإيماءات والوسائل ‏الأخرى، مما يعزز التفاعلات ويسهل المزيد من التفاعلات‎

.‎
مع ذلك، قد يكون الأطفال المدمنون على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أكثر ‏تثبيطًا، كونهم يؤثرون البقاء بمفردهم مع هذه الالعاب، وبالتالي لا يميلون إلى بدء ‏التفاعلات وقد لا يستجيبون الى لابتسامات والإيماءات التي تسهل المشاركة المستمرة، ‏مما يدفع بالوالدين الى قلق أكثر بشأن هؤلاء الأطفال، حيث لا ينظرون إلى هذا ‏السلوك بشكل إيجابي.

وقد يبدأ الطفل بالميل الى تجنب الاتصال مع الاخرين، وظهور ‏علامات بأنه‎ ‎غير سعيد ونادرًا ما يبتسم، أو أن يعاني من مزاج كئيب للغاية، لدرجة ‏يبدون غير سعداء معظم الوقت، ولا يفوتنا هنا التذكير بأن المزاج العام للطفل الصغير ‏يؤثر على تفاعلاته مع من حوله، بالتالي قد يكون من الصعب على الأسرة التعامل مع ‏الطفل ذي الخصائص المزاجية الصعبة، بما في ذلك المزاج السلبي حيث يكون من ‏الصعب التعامل معه. عندما يُظهر الطفل القليل من المشاعر، أو يبدو أن لديه استجابة ‏خافتة لمن حوله، أو لا يكترث لهم، أو يُظهر عدم اهتمام بما يدور حوله، أو لديه ‏تعابير وجه تبدو حزينة، فمن المهم ان لا تستبعد موضوع  الاكتئاب لدى هذا الطفل.

‎ ‎‏ من المؤشرات السلبية لأثر الادمان على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، جعل ‏الطفل سريع الهيجان وسريع الانفعال والغضب، مما قد يعرضّهم الى مشاكل متكررة ‏في النوم والتغذية، أو الشعور بالارهاق، مما يعمل على زيادة إجهاد الوالدين واضافة‎ ‎‏‏مصادر جديدة من الأعباء والضغوطات والخلافات الأسرية، لدرجة التأثير الملحوظ ‏على الترابط الأسري المنشود بسبب وجود مثل هذا النوع من الأطفال. ‏
وقد يتحول الطفل المدمن على استخدام وسائل التواصل الجتماعي هذه الى مفرط بالحركة أو إجادة اللعب بمفرده. ‏

Exit mobile version